وإلى هذا المعنى أشار صلى اللَّه عليه وسلم بقوله: "ألا وإن في الجسد مضغة. . . إلخ" بعد قوله: "الحلال بيِّن. . . إلخ" إشعارًا بأن أكل الحلال يُنوِّره ويُصلحه، وأكل الشبهة والحرام يُصْدئه ويقسيه ويظلمه، وقد وجد ذلك أهلُ الورع، حتى قال بعض أكابرهم: شربت من ركوة جنديٍّ شربةً، فعادت قسوتها على قلبي أربعين صباحًا.
ثم القلب لغةً: مشتركٌ بين كوكبٍ معروف، والخالص، واللب، ومنه قلب النخلة، بتثليث أوله، ومصدر قلبت الشيءَ: رددته على بدئه، والإناءَ: قلبته على وجهه، وقلبت الرجل عن رأيه: صرفته عنه، ثم نُقل وسُمي به تلك المضغة السابقة؛ لسرعة الخواطر فيه، وترددها عليه، كما قيل: [من الطويل]
وما سُمِّيَ الإنسان إلا لنسيهِ ... ولا القلب إلا أنه يتقلَّبُ
وفي الحديث: "إن القلب كريشةٍ بأرض فلاةٍ تقلبها الرياح" (?) لكنهم التزموا فتح (قافه) فرقًا بينه وبين أصله، ومن ثَمَّ قيل: ينبغي للعاقل أن يحذر من سرعة انقلاب قلبه؛ فإنه ليس بين القلْب والقلَب إلا التفخيم (?).
(رواه البخاري ومسلم) وقد أجمع العلماء على عظيم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده؛ إذ منها: الحث على فعل الحلال، واجتناب الحرام، والإمساك عن الشبهات، والاحتياط للدين والعرض، وعدم تعاطي ما يسيء الظن أو يوقع في محذور، والأخذ بالورع، وأنه لا ورع في ترك المباح، وسد الذرائع وأكثرت منه المالكية، وتعظيم القلب، والسعي فيما يصلحه ويفسده، وأنه محل العقل، وأن العقوبة من جنس الجناية، وضرب الأمثال للمعاني الشرعية العملية، وأن الأعمال القلبية أفضل من البدنية، وأنها لا تصلح إلا به، وغير ذلك.