الاختياري؛ ولهذا المعنى امتاز أيضًا عن بقية الأعضاء بكونه أشرفها، ومن ثَمَّ كانت مسخَّرةً ومطيعةً له، فما استقر فيه. . ظهر عليها، وعملت بمقتضاه، إن خيرًا. . فخيرٌ، وإن شرًا. . فشرٌّ، فكان صلاحها بصلاحه، وفسادها بفساده.
وبهذا ظهر أن الحواس معه كالحُجَّاب مع الملِك؛ لأنها تدرك المعلومات أولًا، ثم تؤديها إليه ليحكم عليها، ويتصرف فيها، فهي آلاتٌ وخَدَمٌ له، وهي كما مر معه كملكٍ مع رعيته، إن صلح. . صلحوا، وإن فسد. . فسدوا، ثم يعود صلاحهم وفسادهم إليه بزيادة المصالح أو المضار الراجعة منها إليه، ومن ثَمَّ لم يكن بين تبعيتها له وتأثره بأعمالها تنافٍ؛ لما بينهما من تمام الملازمة وشدة الارتباط.
وقيل: بل هي معه كملك بنيت له خمس طاقات، يشاهد من كلٍّ منها مالا يشاهده من الأخرى؛ بدليل أن النائم لو فتحت عينه. . لم يدرك شيئًا حتى يستيقظ، فحينئذٍ يدرك، فلا إدراك للحواس بذاتها، وإنما المدرِك هو من ورائها.
ورُدَّ: بأن البهائم لا قلب لها بالمعنى الذي قررناه، وتدرك بالحواس، وكذلك المجنون، فدل على أنها مستقلةٌ بالإدراك، وعدم إدراك النائم يحتمل أنه لمعنًى قائم بنفس تلك الحواس، لا لعدم إدراك القلب.
وقد يسمى العقل قلبًا مبالغة؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي: عقل، فلقيامه به وعدم انفكاكه عنه صار كأنه هو، ومن ثَمَّ أضاف تعالى إليه العقل، كما أضاف الإسماع إلى الأذن، والإبصار إلى العين، فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وبهذه أيضًا يرد على مَنْ قال: إنه في الدماغ، ونسب لأبي حنيفة رضي اللَّه تعالى عنه، وعليه الأطباء، واحتجاجُهم بأنه إذا فسد. . فسد العقل غيرُ مفيد؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساده عند فساد الدماغ مع أنه ليس فيه، ولا امتناع من ذلك، قال الماوردي: لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكًا، وفيه بسطٌ بينته في "شرح العباب" أوائلَ الخطبة.