وكتب إلى نوابه في الولايات، بإخراج الصدقات وقال لي: أكتب إلى الصفي بدمشق أن يتصدق بخمسة آلاف دينار صورية. فقلت له: الذهب الذي عنده مصري، قال: فيتصدق بخمسة آلاف مصرية، وأشفق من صرف المصري بالصوري فيكون حراما، ويرتكب في كسب الأجر آثاما. فسمح ومنح، وتاجر (مع) الله وربح.

وسمعت بعد ذلك اصفي - وكان في الخبر مجلي كل مضمار - يقول: قد أحصيت فقهاء المدارس بدمشق - وكانوا ستمائة - فأطلقت لهم ستمائة دينار. ولما عزم على الرحيل من حران؛ أفاض بها الفضل وبث الإحسان.

وقال لي يوم الرحيل: انظر كم بقي بالباب من الوافدين أبناء السبيل، وهذه ثلاثمائة دينار أقسمها عليهم بالقلم، وفضل على أقدارهم في القسم، وكانوا عدة يسرة لم تبلغ عشرة، ولم تجد ميسرة، فعينت لكل اسم قسما، وعنيت بهم خلقا منى وريما. فبلغ أربعمائة دينار. ثم وقفت أفكر وأردد النظر إليه وأكرر. فسألني: ما الذي عملت، وهل قسمت المبلغ وكملت، فقلت: جرى قلمي بقسمة أربعمائة دينار، فهل انقص من كل اسم ربعا؟. فقال أجر ما جرى به القلم، وأحسن صنعا.

وكان رحاه إذا أطلق لعارف عارفه. وقلت له: هذه ما تكفيه ردها مضاعفة، وكان أصحاب المظالم، وأرباب المطالب، والراغبون في الرغائب، والذاهبون في المذاهب، يحضرون عندي، ويعرفون في إنجاز أمرهم وإنجاح قصدهم بذل جهدي. فأكتب لهم توقيعات بمتوقعاتهم، وأنتهى في الإملاء بنهاية مأمولاتهم. فيجريها ويمضيها، ويضع علاماته فيها ويرتضيها، وإذا ألفى توقيعا بخطى علم فيه، ولم يقف بنشره على سر مطاويه. ألفا بما ألفه من صحبتي ومناصحتي، وكفاء للملمات وكفاية للمهمات لكفايتي.

وكان يأمرني بكتابة كتب الملوك وأصحاب الأطراف عن كتبهم في حالتي سلمهم وحربهم. وهي تشتمل على أسباب متنوعة، وآراب متفرعة، بحسب الحوادث المتجددة، والبواعث المتمهدة. فإذا قلت له: بماذا اكتب، وما أخطب؟ فيقول: أنت أعرف وبحسب ما تعلم من حالنا تتصرف. فاكتب من عندي بالإجابة، وتوافق منه الإصابة. فقد كنت مطلعا على سره، مضطلعا بأمره. ما يخفى عني مراده، وأنا متيقن لمن ولاؤه ووداده. فآتى بمداناة الأعراض، ومداواة الأمراض، وموازنة الجواهر والأعراض، والتمييز بين أهل القبول وأهل الإعراض. فكم أصلح قلمي بينه وبين من عاداه، وراض الجامح من سخطه وقاده إلى مدى رضاه.

وكان يغضب للكبائر، ولا يغضى عن الصغائر. ويرشد إلى الهدى ويهدي إلا الرشاد، ويسدد الأمر ويأمر بالسداد. فكان مماليكه وخواصه، بل أمراؤه وأجناده أعف من الزهاد والعباد.

ورأى يوم لي دواة؛ بالفضة محلاة، فأنكر حل الحلية، وأدعى حظر القنية. فقلت على سبيل المدافعة؛ وطريق المناظرة والممانعة؛ أو ليس تحل حلية السلاح، واستصحابه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015