وصاحبه ملازم في طلبه، وما حضر اللقاء إلا استعار فرسا فركبه وهجر جياده، فإذا نزل جاء صاحبه فاستعاده. فكلهم يركب خيله، ويطلب خيره. وهو يستعير جوادا، ويستعر في الجهاد اجتهادا.
وكان لا يلبس إلا ما يحل لبسه، وتطيب به نفسه؛ كالكتان والقطن والصوف، وكسرته يخرجها في إسداء المعروف.
وكانت محاضرة مصونة من الحظر، وخلواته مقدسة بالطهر. ومجالسه منزهة من الهزء والهزل، ومحافله حافلة آهلة بأهل الفضل. وما سمعت له قط كلمة
تسقط، ولا لفظة فظة تسخط.
يغلظ على الكافرين الفاجرين، ويلين للمؤمنين المتقين. ويؤثر سماع الحديث بالأسانيد، وتكلم العلماء عنده في العلم الشرعي المفيد. وكان لمداومة الكلام مع الفقهاء؛ ومشاركة القضاة، اعلم منهم بالأحكام الشرعية، والأسباب المرضية، والأدلة المرعية.
وكان من جالسه لا يعلم إنه جليس السلطان، بل يعتقد إنه جليس أخ من الأخوان. وكان حليما مقيلا للعثرات، متجاوزا عن الهفوات، نقيا تقيا، وفيا صفيا. يغضي ولا يغضب، ويبشر ولا يتقطب ما رد سائلا، ولا صد نائلا، ولا أخجل قائلا، ولا خيب آملا.
ومن جملة مناقبه، إنه تأخر عنه في بعض سفراته الأمير أيوب بن كنان مشتغلا بمهماته؛ فلما وصل سأله عن سبب تخلفه، وما الذي وقفه عن موقفه. فذكران غرماءه لجوا وألحوا، وضنوا بإطلاقه وشحوا. فأحضر غرماءه وتقبل بالدين، وتكفل بالعين. وأمرني بأن أحيلهم على مصر فحسبتها وهي اثنا عشر ألف دينار مصرية وكسر. فقدم نوابه وفاءها على الحمل، لما عرفوا فيه من بغض صون المال وحب البذل للفضل.
ولما كنا بالقدس في سنة ثمان وثمانين، كتب إليه سيف الدولة ابن منقذ من مصر وهو بها نائبه، وقد وضحت في الكفاية مذاهبه؛ ان واحدا ضمن معاملة بمبلغ فاستنض منها ألفي دينار وتسحب، وربما وصل إلى الباب وتحيل وتمحل، وخيل وكذب، فجاء إلى السلطان من أخبره أن الرجل على الباب وخال إنه إليه به تقرب. فقال: قل له إن ابن منقذ يطلبك فاجتهد ألا تقع في عينه، فعجبنا من حلمه وكرمه، بعد أن قلنا قدم الرجل بقدمه إلى حينه.
ومما أذكره له في أول سفري معه إلى مصر سنة اثنتين وسبعين؛ ووردت بها من
فضله العذب المعين؛ إنه حوسب صاحب ديوانه عما تولاه في زمانه؛ فكانت سياقه الحساب عليه سبعين ألف دينار باقية عليه. فما طلبها ولا ذكرها، واراه كأنه ما عرفها. على أن صاحب الديوان ما أنكرها.
وكان يرضى من الأعمال بما يحمل عفوا صفوا، ويحصل عذبا حلوا. وكله يخرج في الجود والجهاد، ورعاية الوفاد والقصاد. ثم لم يرض لصاحب ديوانه المذكور بالعطلة؛ ولم ير انزواءه في بيت العزلة؛ فولاه ديوان جيشه، وأولاه ما دنت له به مجاني جاهه وعيشه.
ولما كنا بظاهر حران في سنة إحدى وثمانين. عم بصدقاته الفقراء والمساكين،