فأحضر السلطان أمراءه المشاورين وشاورهم في الأمر وأظهرهم على السر. واستطلع ما عندهم من الرأي، وسرد لهم الحديث من المبادئ إلى الغاي، وقال لهم: نحن بحمد الله في قوة، وفي ترقب نصرة مرجوة، فأنصارنا المهاجرون إلينا ذوو دين وكرم ومروة. وقد ألفنا الجهاد، وألفينا به المراد. والفطام عن المألوف صعب، وما تصدع إلى اليوم بتأييد الله لنا شعب. وما لنا شغل ولا مغزى إلا الغزو. وما نحن ممن يشوقه اللعب ويسوقه اللهو. وإذا تركنا هذا العمل فما العمل؟ وإذا صرفنا عنهم الأمل ففيم الأمل، وأخشى أن يأتيني - في حالة بطالتي - الأجل، ومن ألف الحلية كيف يألفه العطل، رأيي أن أخلف رأي الهدنة ورائي، واقدم بتقديم الجهاد اعتزازي وإليه اعتزائي. وما أنا بطالب البطالة، فارغب عن استحالة هذه الحالة. وقد رزقت من هذا الشيء فأنا الزمه، ولي بتأييد الله من الأمر أجزمه وأحزمه.
فقالوا له: الأمر على ما تذكره، والتدبير ما تراه والرأي ما تدبره، ولا يستمر ألا ما تمره من الأمر، ولا يستقر إلا ما تقرره؛ وإن التوفيق معك في كل ما تعقده وتحله وتورده وتصدره. غير انك نظرت في حق نفسك من عادة لسعادة، وإرادة العبادة. واقتناء الفضيلة الراجحة، والاعتناء بالوسيلة الناجحة. والأنف من العطلة، والعزوف للعزلة. وإنك تجد من نفسك القوة والاستمساك، ويقينك يعرفك بالأماني الإدراك. فانظر إلى أحوال البلاد فإنها خربت وتشعثت. والرعايا فإنها أعكست وتعلثت. والأجناد فإنها نصبت ووصبت، والجياد فإنها عطلت وعطبت، وقد أعوزت العلوفات، وعزت الأقوات، وبعدت عنا العمارات، وغلت الغلات. ولا جلب إلا من الديار المصرية. مع ركوب الأخطار المهلكة في البرية. وهذا الاجتماع مظنة التفريق، ولا يدوم هذا الاتساع مع هذا الضيق. فإن المواد منقطعة،
والجواد ممتنعة. والمترب قد ترب، والمعدم قد عطب. والتبن أعز من التبر، والشعير ليته وجد وإن كان غالي السعر.
وهؤلاء الفرنج إذا يئسوا من الهدنة؛ بذلوا وسعهم في استفراغ المكنة واستنفاد المنة. وصبروا على المنية في طريق الأمنية، وأبوا في الإقبال على دينهم قبول الدنية. والصواب أن نقبل من الله الآية التي أنزلها وهي قوله (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، وحينئذ تعود إلى البلاد سكانها وعمارها، وتكثر في مدة الهدنة غلاتها وأثمارها. وتستجد الأجناد عدتها، وتستريح زمان السم ومدتها. فإذا عادت أيام الحرب عدنا، وقد استظهرنا وزدنا. ووجدنا القوت والعلف، وعدمنا المشاق والكلف. ففي أيام السلم نستعد للحرب، ونستجد أدوات الطعن والضرب، وليس ذلك تركا للعبادة، وإنما هو الاستجداد والاستجادة.
على أن الفرنج لا يفون، وعلى عهدهم لا يقفون. فاعقد الهدنة لجماعتهم لينحلوا ويتفرقوا، وقد شقوا بما لقوا. وما يقيم لهم بالساحل من يقدر على المقاومة، ويستقل بالملازمة.
وما زال الجماعة بالسلطان حتى رضي، وأجاب إلى ما اقتضى. وكانت قد بقيت