الداهية العاقة. فجاءهم فجاءة، والصبح لم يبد إضاءة. والخيط الأبيض من الخيط الأسود لم يتبين، وهبوب الأعين من هبوة الغفوة لم يتعين. وكل غرار في جفنه قار، وكل قلب بأمنه سار. وكل جنب على فراش، وكل عاش له النعاس غاش.
فلما بغتوا بهتوا، وطلبوا أن يفلتوا فما التفتوا. وركب كل منهم على وجهه، وربما كر بكرهه. وفيهم من ركب بغير عدة حصانه، وأسلم إخوانه وغلمانه. وانهزموا نحو الأثقال، فأوقعوا العدو وهو وراءهم على الجمال والأحمال. فوقع العدو في سوابقها، واشتغل بها عن لواحقها. فتفرقت في البرية. وعاد معظمها إلى الديار المصرية، ومنهم من عاج إلى طريق الكرك، فلم يقع في الشرك، ولم يحصل في الدرك. فأخذ الكفار جمالا لا تعد، وأحمالا لا تحد. وكانت هذه نكبة عظيمة، ونائبة عميمة. ونوبة ذات نبوة، وكبة ذات كبوة. ووقعة ذات روعة، وعولة ذات لوعة. فظنت الظنون، وأرجف المرجفون. وقالوا: قد حصل للفرنج من الظهر ما يحملهم وينهضهم، ومن المال يبطرهم ويحرضهم. ومن الآن يقابلهم وبأي عسكر وعدة نقاتلهم!.
ووصل الجند مسلوبين، منكوبين منهوبين. فسلاهم السلطان عن أموالهم، بما قوى من آمالهم. وحضهم على الحظ من الأخذ بثأرهم، والجد في دمار القوم وبوارهم. ولهى الملاعين بما ملأ العين من المال، عن القيل والقال، والقتل والقتال، وحلا لهم ما حاولوه من الحال. وجرى هذا كله والملك الأفضل والملك العادل غائبان،
وعساكره الموصل وسنجار وديار بكر متباطئة في الإتيان.
كان الملك الأفضل طلب من والده البلاد قاطع الفرات، ونزل عن جميع ما له من الولايات. وأنه إذا عبر إلى الرها وحران ملك تلك البلدان، وعنا له من بها من ملوك الأطراف ودان. ورحل من القدس في ثالث صفر وقد أزمع السفر، ووجه عزمه الماضي المضيء قد سفر. وأقام في دمشق حتى استعد، واستجدى من أبيه ما كمل به الخزانة واستجد. وأطلق له السلطان عشرين ألف دينار، سوى ما أصحبه برسم الخلع والتشريفات؛ من مستعملات ثياب ومصوغات نضار. ثم سار في مجر سيل خيله جار ذيل نقعه على المجرة، شاغل بالسير والسرى أسرار ذوي الأسرة. بادية على صفحات صفاحه نضرة النصرة. ووصل إلى حلب، وقد مرى افاويق التوفيق وحلب. واحتفل أخوه الملك الظاهر لقدومه، وقام له بسنن الكرم ورسومه. ورحب للترحيب به صدره وجنابه، وسحب على روضه سحابه، وأصحب فيض فضله صحابه. ووقف لخدمته مائلا، وهز عطف الابتهاج إليه مائلا. وأحضر له مفاتيح بلده، وقدم له كل ما في يده. ولم يبق من الجميل شيئا إلا عمله، ولا نوعا من الفضيلة إلا كمله.
وعرض عليه الحصن العراب، والتحف والثياب. وخلع على خواص أصحابه وعوام أجناده،