وأبهجه وأبهاه، وأضوعه وأضواه، وأوعاه للفضائل وأحواه. ولقد فجعت به صديقا صدوقا، وشقيقا شفيقا، ورفيقا رفيقا. فهفى عليه من شهم توطن التراب، وسهم أصيب بعد ما اصاب، وجواد بلا حساب، لم يخطر بالبال من رزئه حساب، (لكل أجل كتاب).
وتوفي في هذه السنة علم الدين سليمان بن جندر، وقد سبق ذكره في غزواته، ومواقفه ومقاماته. وكان في الخدم مقيما، والسلطان إلى الأنس به مستنيما. فعرض له مرض استأذن لأجله في العود إلى وطنه بحلب، وسمح له السلطان بجميع ما طلب. وتوجه من القدس سادس عشر ذي الحجة، واستقام على المحجة. وقضى نحبه عند قربه من دمشق في قرية غباغب، وستر التراب منه المناقب. ووصل الخبر بوفاته إلينا يوم الخميس ثامن عشري الشهر.
وفي هذه السنة فتك بأتابك مظفر الدين قزل ارسلان بن ايلدكز في همذان؛ ليلة الأحد مستهل شعبان. كان تولى الملك بعد وفاة أخيه المعروف ببهلوان في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ونجحت ارادته، ورجحت سعادته، وصلحت عاداته. وكان السلطان السلجقي طغرل ابن ارسلان تحت حكمه، وهو ابن أخيه لأمه. وله اسم السلطنة ولقزل حكمها، وله سموها ووسمها. فأنف السلطان من كونه تحت حجره، وبحكم نهيه وأمره، فإنه لم يكن له صاحب ولا غلام إلا من عنده، ولم ينفرد منذ تولى بحله وعقده. فهرب وحده تحت الليل، واتصل به بعد ذلك من انضم إليه من الخيل. ودام غائبا في نواحي دامغان مدة، واشتد مصابه وأصاب
شدة. فاتصل به عدة من مماليك بهلوان الخواص وسلكوا معه نهج الإخلاص. وأعادوه إلى سرير ملكه، وانتسق أمره في سلكه. وقويت يده، وتأيدت قوته، واجتمعت كلمته، وتكلمت في الأمر والنهي جماعته. ورهبه قزل ارسلان ولازم ذعره، وأخذ منه حذره.
وتنافس الأمراء ومماليك بهلوان الذين تبعوه، واعلوا شأنه ورفعوه. وسعى بعضهم ببعض، وقابلوا كل إبرام من مكرهم بنقص. وقالوا له: هؤلاء البهلوانية بغتالونك، وبالسوء ينالونك. فابطش بهم قبل أن يبطشوا وعثرهم قبل أن ينتعشوا، فسمع مقالهم، وتبع محالهم. وقتلهم بحضرته وهم غارون، وساءهم باغتيالهم وهم بالمغاة فيه سارون. فنفر منه كل آنس، وحفظ نفسه كل منافس، وزال بشره وبقى بوجه عابس. وفارقه بنو البهلوان بجنايته على مماليك أبيهم، ولقوة بتأبيهم. وقصده قزل ارسلان فأزعجه، وأخرجه من دار ملكه وأحرجه. وأجلس سلطانه آخر موضعه، وكدر عليه بالشوائب والنوائب مشرعه، وخطب لمعز الدين سنجر بن سليمان شاه وأطعمه وأطمعه. وأرضاه بالاسم، وأجراه على الرسم. وكاتب سلطاننا وعقد له الصداقة بصدق الاعتقاد، وانتظمت بينهما أسباب الاتحاد.