تقي الدين الجنود، ووافقته السعود، وخافته في غاباتها الأسرد. وغريت به العقول وعلقت به العقود، وتوطدت له البلاد وتوطأت، وتهيبت وتهيأت. واستدنته الممالك القاصية، وأطاعته المقاصد العاصية. وتشنفت له مسامع الأقطار بأقراط السمع والطاعة، وعم الامحال تلك المحال، ففض بما أفاضه من فواضله مجاعة الجماعة. ورجى وخشى، واعتفى وغشى. وامتلأت الطرق بالوفود والجنود، وتوالت إليه إمداد البأس والجود.

فبينا هو في غفلة من القدر؛ وغفوة من الكدر، وغرة من الغير؛ وقد ألهاه حديث الدنيا عن الحادث الداني؛ وجنى الحياة عن الموت الجاني؛ وزيادة الأمل عن زيادة

الأجل؛ ونزل المنى عن نوازل المنون؛ وسكن الأتراب عن التراب المسكون، ظهر له سر الغيب المكتوم، وأدركه القضاء المحتوم. ومرض أياما ثم قضى، وانقرض عهده وانقضى.

وكتم ولده الملك المنصور ناصر الدين محمد وفاته، إلى أن خرج من ذلك الإقليم وجاوزه وفاته. وفتحت ملازكرد بابها، وسلم الرب أربابها وخرج ولد تقي الدين بعسكره وماله سالما، وجد في مقام والده بإظهار شعاره قائما. وجاءت رسله إلى السلطان تسأله، في إبقاء بلاد أبيه بيده حتى يبقى مستمرا على جدده. وطلب من السلطان؛ الميثاق له بأغلظ الأيمان. فلم يقبل الشرط؛ واشتط فشط، وجلب له الشطط السخط، وأقام على التباعد ولم يتدارك بالوصول ما منه فرط، ونسبوه في استيحاشه إلى العصيان، وسعوا له في أسباب الحرمان. حتى انتخى له الملك العادل فمضى لإحضاره، وجرى الأمر على إيثاره.

وسيأتي ذكر ذلك في حوادث سنة ثمان.

وتوفي في هذه السنة حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين ابن أخت السلطان

توفي بدمشق ليلة الجمعة تاسع عشر رمضان يوم وفاة تقي الدين فأصيب السلطان بابن أخيه وأخته في يوم واحد. وكلاهما له أقوى ساعد، وأوفى مساعد، فيا لله من حسام أغمد، وهمام ألحد. وركن وهن. وكنز دفن. وبحر غاض، ورزء هاض. وصبح كسف، وبدر خسف. لقد غامت الأيام لغمه، وثكلته الدولة ثكل أمه. فإنه كان واحدها وعضدها ومعاضدها. وهو الذي فتح نابلس وأبقاها السلطان معه، وأبقى فيها من سنن العدل ما شرعه، وقد سبق في الكرماء ذكره. وذكر في المكارم سبقه، وقرظ حذقه. ووصفت مقدماته، وقمت بصفاته. فإن له مواقف في الجهاد مشكورة، ومقاطف لجنى النصر مشهورة. فقطع الأجل عليه طريق الأمل،

وأعاد حلية الزمان به إلى العطل. وأوهن عقد شبابه الطرى وحله، وثلم حد شباه الطرير وفله، وما زال في غزواته مثيرا للترب إلى أن سكن عليه التراب وسكنه، وطالبه الثرى بحق خلقه معه فاسترهنه، وغارت عليه الأرض بانطلاق سموه إلى السماء فاعتقلته، ووجدته في أوج الفلك في النيرات فنقلته.

وما كان أذكاه وازكاه، وأصحه وأصحاه،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015