وبالسهول من الحزن عائذين. فإن الثلوج دامت على أولئك العلوج. وصدتهم عن الدخول والخروج ونزلت بهم النوازل في تلك المنازل، فنفروا راحلين إلى السواحل. وذلك في يوم الخميس الثامن والعشرين من ذي الحجة؛ فطابت قلوبنا بما وضح في النصر من المحجة، وثبت للحق على الباطل من الحجة.
وفي هذا اليوم وصل من الموصل جماعة من الحجارين، وعدتهم خمسون رجلا، إذا اجتمعوا قطعوا جبلا. وقد سيرهم صاحب الموصل إلى القدس، للعمل في الخندق وتعميق الحفر، والقطع في الصخر. وقد سفرهم بنفقة، وجعلهم من الإحسان على ثقة. وأصحبهم بعض حجابه، ونداهم بندى سحابه. وسير مع المندوب مالا يفرقه عليهم في رأس كل شهر، ويتعاهدهم في كل يوم بتفقد بر. فأقاموا نصف سنة، وأتوا في صنعتهم بكل حسنة.
وصمم السلطان على حفر خندق جديد عميق، وإنشاء سور وثيق. وأحضر من أسارى الفرنج قريب الفين، ورتبهم في العمارتين. وجدد أبراجا حربية من باب العمود إلى باب المحراب، وانفق عليها من المال ما خرج عن الحساب. وبناها بالأحجار الكبار الثقال، فجاءت أرسى وأرسخ من الجبال. وكان الحجر الذي يقطع من الخندق يستعمل في بناء السور، وإذا تكملت العمارة على ما رتبه للقدس من المعمور؛ كان آمنا من قصد العدو المدحور، وفي عصمة الله من المخوف المحذور.
وقسم بناء السور في مواضعه على أولاده؛ وأخيه الملك العادل وأمرائه وصار يركب كل يوم ويحض على بنائه. ويخرج الناس لموافقته على حمل الحجر إلى مواضع البناء، ويتولى ذلك بنفسه وبجماعة خواصه والأمراء. ويجتمع لذلك العلماء والقضاة والصوفية، وحواشي العسكر والاتباع والرعية والسوقية. وكنت اركب في غلماني واتباعي، واحفظ قلب السلطان في نقل الحجر وأراعي. فبنى في اقرب مدة ما تعذر بناؤه في سنين وبذل جهده في التحصين لتأمين المؤمنين.
توفي الملك المظفر تقي الدين عمر ين شاهنشاه بن أيوب ابن أخي السلطان، يوم الجمعة تاسع عشر شهر رمضان. وهو على حصار ميلاز كرد من عمل أرمينية؛ وقد سبق ذكر مسيره إلى بلاد الجزيرة، لاستمداد الإمداد الكثيرة. واستنجاد الانجاد، والاستنجاد بالأجناد، والجمع من جميع الجهات للجهاد. والعود سريعا بالحشود الجامعة والجموع الحاشدة، والجيوش المترادفة المترافدة، والجنود المتوافرة المتوافدة. والقواضب القاصلة، والهواضب الهاطلة، والمصافحين بالصفاح، والمختالين في أعطاف المراح بأطراف الرماح،