لما عرف السلطان من أخيه الملك العادل ما جرى بينه وبين ذلك الطاغية، وأنه مصر على تلك المباغي الباغية، جمع يوم الجمعة وقت الإصباح الأصحاب واستحضر من أسد غابه من غاب. وأمر برحيل الاثقال، وأقام في رعيل الرجال. وركب في عجم أنجاب، وعرب على عراب، وكرد على جرد، وكل سابق على سابق ورد. على خيل من سماتها آثار الطعن، وعلى جبهاتها أنوار اليمن. بأكباد غلاظ على العدا، ورقاق حداد على الطلى. ونبال مصمية لبان المصمم، ورماح لدن لدنها ضغم الضيغم المعلم. فأقام العدو بسواد قومه بياض يومه، وبات وقد فارق جفنيه غرار نصله ونومه.
فلما أسفر صباح السبت رابع عشر شعبان، ركب العدو على صوب ارسوف؛ وقد
ضم الرجال والفرسان. وهو سائر في ليل حالك، وسيل سالك، وخيل عالك، وحزب الشيطان، وحرب الإيمان، وأصحاب الجحيم، وأقطاب الضلال البهيم. وخطاب الخطوب، وانداب الندوب. وكفاة الكفاح، وصفاة الصفاح. وأجناس الكفار، وأنجاس الداوية وأرجاس الاسبتار. وكل غيران غير وان وأفعوان معتقل أفعوان، وكل ارققم في جلد أرقم، وكل أزرق أشقر على أدم.
فأحدقت به أحلاف عساكرنا إحداق النار بالحلفاء، ونقلت بنسور ضوامرها الأرض إلى السماء. وخاضت الغمرات، وأفاضت الجمرات، وأفاظت المهجات. وشبت نيران الهنديات، وأهبت رياح العربيات. وألهبت شعل اليمانية، وألهت بها مقل الفرنجية. وجال عليهم في الجاليش، الترك على الاكاديش. وأحدقت سهامها كالأهداب بالأحداق، وبرزت بيضها لمعانقة الأعناق.
ولمع شرار النصال في دخان العجاج، وخرقت بنات الحنايا الخرق حجاب الحجاج، وأفضى فيض بنابيع النبع إلى اعجال الاعلاج. فإن الفرنج أغذوا في سيرهم وجدوا، واحتدموا واحتدوا وامتدوا. وقربت منهم الاطلاب، واختلط بهم الأصحاب، وتعانقت الرقاق والرقاب، وأحرج القوم وتقطعت بهم الأسباب. وقربوا من ارسوف وقد لاقوا منا الحتوف والخسوف. وضاق خناقهم، وحاق بهم إرهاقهم. ونشبت الجاليشية فيهم بالنشاب، وشبت نيران المرهفة في أولئك الاوشاب.
فاحتملوا في جلودهم الجرح، ومن اجلادهم الطرح. ووجدوا الموت الغالي مسترخصا، وأيقنوا بالدمار ولم يجدوا مخلصا. وعرفوا أن البلايا عليهم متصلة غير منفصلة، وأن قواهم لما فوق ما لقوه من النكاية غير محتملة. فحملوا على الاطلاب المنصورة حملة زحزحتها عن مواضعها وكادت تحتلها شوارع القنطاريات عن مشارعها. لكنها تحيزت إلى القلب المنصور، وفازت من وجوه
النصر بالسفور.
واستشهد في تلك الفورة الثائرة، والثورة الفائزة، سعداء استقبلوا بالأسنة الأسنة، وأجابوا دعوة الله بأن لهم الجنة. فما صرعوا حتى صرعوا، ولما أشرعت إليهم الرماح أشرعوا. ثم كرت عليهم نخب الرجال كرة أردتهم وردتهم، وصدفتهم عن الاستنان في جدد تلك الحملة