السلطان يوم الثلاثاء مكث على الثبات والهدو، ينتظر ما يكون من خبر العدو. وأقام الفرنج على حالهم، لتعبهم وكلالهم، ولأسباب منها جراحاتهم، عدموا منها منهاج راحاتهم. وكذلك ما ملكهم من رعب الهلاك، والابتراك في الارتباك.
وكان عز الدين بن المقدم في ساقة اليرك، مستيقظا للحفظ والدرك. فبصر بجماعة من الفرنج مقبلين، ركبوا بغير عدة مسترسلين، ولأخبار عسكرنا مستشرفين، وهم مما تم عليهم غير متخوفين. فعبر إليهم النهر من ورائهم، واستظهر عليهم في لقائهم. فقتل منهم عدة، ولقوا منهم شدة وأسر ثلاثة قبل أن ينالوا إغاثة. ثم ركب الفرنج إليه، وحملوا عليه. وكانت وقعة عظيمة، جلبت لنا غنيمة وعليهم هزيمة.
وأحضر الأسارى عند السلطان، بحزام الذل والهوان. فأخبروا إنه جرح بالأمس منهم ألف، وسرى فيهم وهن وضعف. وقد جرى عليهم أمر عظيم، وبلاء مقعد مقيم. ورحلنا وقت الظهر، وعبرنا شعراء ارسوف في الطريق الوعر. ونزلنا وقت غروب الشمس بعد الخروج من تلك المذاهب، على قرية يقال لها دير الراهب.
ومضى السلطان حريدة، إلى قرب ارسوف، وأطال هناك الوقوف. حتى رأى أرضا في طريق العدو تصلح للقائه، والاحداق به من أمامه وورائه. وأقام يوم الأربعاء في ذلك المنزل، والعدو في منزله الأول.
كان في اليزك علم الدين سليمان بن جندر، قد ظهر فيه وستظهر. فراسله العدو
على أن يتحدث مع الملك العادل ويجتمع به، وينزل على أربه ويعرب عن مطلبه. فاجتمعا يوم الخميس على التأسيس. ثم تحدثا في الحوادث وعوادي الحروب العوائث. وأن السلم متعينة، والسلام فيها متبينة. والمصالحة مصلحة، والفئدة مترجحة. قال: وما جئنا إلا لإصراخ أهل الساحل، فوقعنا في الشغل الشاغل. فإن أصلحتموهم واصطلحتم استرحنا واسترحتم. فقال له الملك العادل: ما الذي فيه تحاور وله تحاول. فقال: رد البلاء برد البلاد، وسلوك مسلك الإسعاف والإسعاد. فقال العادل: هذا لا مطمع فيه، وهذا رسم باطل حقنا معفيه. ودون حدود البلاد حدود الحداد، وخلط القتام وخرط القتاد، وصرف عنان صرف العناء إلى المتصرفين بالعناد.
وأدركه حكم الحمية والحفيظة، وغلى مرجل غيرته في الكلمات الكالمات الغليظة. وكان الترجمان بينهما هنفري بن هنفري، فلما سمع ملك الانكتير ما راعه، ما استطاع سماعه. وثار ثورة المحنق المحرق، وآل اجتماعهما إلى التفرق.