وزحفا بجهدهما وجهلهما. ووافوا بكل برج وثيق، وكل منجنيق كنيقوكل آلة هائلة، ودبابة للبلايا حاملة. ونصبوا ثلاثة عشر منجنيقا هعى موضع واحد، وأهبطوا حجارات السور بكل حجر صاعد. وباشروا الباشورة بالهدم؛ والخندق بالطم، والسور بالنقب والثلم. وخرج من نقابي البلد من ارتد عن الدين، وأعان نقابي الملاعين. حتى وقعت أبدان السور وأبراجه. وتبادر إلى الثلم أعلام الكفر وأعلاجه.

وأصحابنا مع ذلك ثابتون، ناكبون كابتون. قد سدوا تلك الثغر بنفوسهم، وجعلوا حجارات الفرنج وجراحاتها مغافر رؤوسهم. وكشفوا وجوههم لقبل السهام، وتلفعوا من وقع بيضها بحمر اللثام. ترشف شفاه الشفار دماءهم، وتشكر ملائكة السماء سماحهم بالمهج وسخاءهم. كلما انتظموا مع العدو انتثر، وكلما نهضوا لتلقيه عثر. وكلما طلع إليهم ردوه بغربهم، وكلما اجتمعوا به فرقوه بطعنهم وضربهم. وهم يواقعون ويولقحون، ويكافحون ويلافحون. وكل قد وقف في موقف الكرام وسل نصله، واثبت في مستنقع الموت رجله، وودع للجنة في لقاء أهل النار أهله.

فخانهم بعض الأمراء الجبناء، وأخذ للحياة بترك الحياء، وفر من البلاء إلى البلاء، وحسب النجاة في النجاء. وهرب في بركوس قد أعده لذلك اليوم، وآثر على جراح السيف جراح السب واللوم. واستصحب أمثاله واستتبع، وأبعد في فراره وأبدع. وأضعف بضعف قلبه قلوب الباقين، وأطمع أفاعي الكفر في نهش الراقين.

على أن الأصحاب ما آذنوا بالاصحاب، ولم يقابلوا الضراب بالإضراب. وما زالوا يواصلون بالقواطع، ولا يرتاعون للروائع، ولا يريمون مقام المقامع، ويطالبون من الأرواح بالودائع. حتى انتقل القتال من السور إلى الدور، ومن القوارع إلى الشوارع. ودخل العدو المدينة على سلم بالحرب شبيهة، وأمن أخوف وأخطر من كريهة، وقطيعة فظيعة، كل منة لها غير مستطيعة.

ولولا ما اتفق بعد قضاء الله من الأسباب الموهنة، لم تكن عكاء بالممكنة للعدو ولا المذعنة. وإن ذهبت المدينة فالدين لم يذهب، وإن عطبت فالإسلام لم يعطب. وإن ملكت واحتلت فما اختل الملك، وإن سلكت ووهت فما وهي السلك. وإنما نبه الله بها العزائم الراقدة، وأجرى مياه الهمم الراكدة. وبعث الحميات الناعسة،

وحرك النخوات المتنافسة. وكما أظهر عجزنا عن قدرته وقدره؛ سيظهر عزنا بنصره وظفره.

ونحن إلى الآن كما كنا؛ محتدون بخنادقهم، آخذون بمخانقهم، نوسعهم الردى في مضايقهم، ونجذبهم في كل يوم إلى مصارعهم، ونكدر بعلق نجيعهم صفو مشاربهم ومشارعهم. فما خرج منهم من دخل، وما انقطع إلا من وصل. وما أصحر إلا من ندبه عريسه وعرسه، وما برز إلا من واراه من بطون الخوامع رمسه. فهم مقيمون لا يريمون مخيمهم، وأن يرومون أن يهجروا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015