ولما علم السلطان سابع جمادي الآخرة يوم الثلاثاء؛ بما عليه البلد من غلبة البلاء؛ زحف بعسكره ولج
حتى ولج خنادقهم، وطرق اليهم بوائقهم. ونهب من خيامهم ما تطرف، وأسرف في ارهاقهم بما أشرف. وحمل الملك العادل بنفسه مرارا، وأجرى من الدم أنهارا، واراهم بالنقع النهار ليلا وبالبيض الليل نهرا. وأمسى السلطان تلك الليلة ساهدا لم يذق طعاما ولم يستطب مناما. ثم أمر بدق الكوس سحرا حتى عادت العساكر إلى الركوب، والقساور إلى الوثوب. والفوارس إلى الفرس، والانداب إلى الندوب، واعادت إلى الطلوع غروبها بعد الغروب. بكل من يلقى الجيوش على الجيوش، ويرمي الوحوش على الوحوش. ويرعف الصدور بصدور الرواعف، ويشير بالأمن عن مواقف المخاوف. وكل من للضرب في جبينه شامة، وللطعن في جنبيه علامة. على خيل كأمثال القنا تحمل القنا، وضمر كالحنايا تهوى السهام إلى الوغى.
في غداة صباحها في حداد ... نسجتها أيدي المطهمة القب
وظلام يجلوه بريق اليمانية القطب
فجرى ذلك اليوم من القتال أشد مما كان أمس، واتصل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وفي هذا اليوم وصلت من البلد مطالعة مضمونها: أن العجز بلغ بهم إلى غايته، وانتهى الضعف بهم إلى نهايته، ولم يبق إلا تسليم البلد إن لم تعملوا شيئا: ولم تنجحوا في الذب عنه سعيا فضقنا بهذا الكتاب ذرعا، وقلنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا والسلطان من هذا في أمر عظيم، وهم مقعد مقيم. وهو مجتهد في بذل وسعه، سائل من الله لطف صنعه. معاود إلى الحرب في كل صباح، طائر إلى اللقاء بجناح كل نجاح.
وفي هذا اليوم الأربعاء بعث العساكر على اللقاء. ودخل راجلنا إلى خنادقهم وخالطوهم، وتقابضوا على بسيطة واحدة وباسطوهم. وذكر إنه وقف في ثغرة من تلك الثغر إفرنجي، كأنه جنى مستشيط للشيطان نحبى. وهو يدافع ويمانع، ويكافح
على تلك الثغرة ويقارع. قد أتخذ طارقنه لجسمه صدفا، وصار لسهام المنية هدفا. وهو كأنه مما نشب فيه من النشاب القنفذ، وتلك السهام من لبس الحديد لا تنفذ.
فلم يزل واقفا إلى أن أحرقه بقارورة النفط زراق، فأمسى وهو حراق. ووقفت أيضا امرأة بقوس من الخشب ترمى، وتديم اصماءها وتدمى. فلم تزل تقاتل حتى قتلت، وإلى سقر انتقلت.