لما هاج البحر وماج؛ واظهر الارتجاج والانزعاج، نقل الفرنج سفنهم خوفا عليها إلى صور فربطوها بها، وأخلوا ساحل عكاء من إرعابها وإرهابها. وخلا لنا وجه البحر، وغابت عن الساحل مراكب الكفر. فاشتغل السلطان بإنفاذ البدل إلى البلد، من الثابتين في الجلاد على الجلد.
فانتقل الملك العادل بمخيمه إلى جانب الرمل، ونزل نهر حنيفا في سفح الجبل، لتسهيل طريق من يسيره إلى البلد من البدل. فإن المقيمين في عكاء شكوا أمراضا معترضة، وأعراضا ممرضة. وكثرة السواد، مع قلة النفقة والزاد.
وكان في البلد زهاء عشرين ألف رجل من أمير ومقدم وجندي، وأسطولي وبجري. ومتعيش وتاجر وبطال، وغلمان ونواب وعمال. وقد تعذر عليهم الخروج فسكنوا، وإذا عاينوا خوفا على الموضع موهنا عاونوا وما وهنوا. فرأى السلطان أن يفسح لهم في الخروج رفقا بهم ورأفة، وما أفكر أن في ذلك مخافة وآفة.
فقد كان فيه أمراء أمروا الأمر، وألفوا الصبر، وما تعوا الحصر، واجترءوا وتجاسروا، وصبروا وصابروا، وحاربوا وحربوا، وجاروا وجربوا، وزالوا وأزالوا، وحاولوا وأحالوا، وعرفوا مكامن المكايد، وكشفوا كوامن المقاصد. وأخذ كل موضعه في الحرص على الحراسة؛ وشاعوا بالسماحة والحماسة.
وكان فيهم من يطعم وينفق، ويجمع الرجال وقلوبهم بما عليهم يفرق، مثل حسام الدين أبي الهيجاء السمين، فإنه أنفق ما ادخره من الألوف والمئين. مستمرا على إنفاق، لا تعتريه فيه خشية إملاق. وهناك ستون أميرا ومقدما، وكلهم يرى المغرم في سبيل الله مغنما. وكانوا ينتفعون بالعوام وكثرة الناس في جذب المجانيق، والإعانة على ما يتفق في الحصر من التضييق.
فلما خرج الخواص خرج معهم العوام، وتبدد بتبدد نظمهم النظام. والزم السلطان
جماعة من الأمراء بالدخول، فخدموا على أن يعفيهم بالبذول. فلم يقبل منهم بذلا، والزم بنقل الازواد لبعض سنتهم كلا. فلم يدخلوا إلا بعد لاي، وقد بلغوا في غي الرأي إلى أقصى غاي. وأكثرهم صرف رجاله المعروفين المستخلصين، وامتنع بمن استجد استخدامه من المسترخصين. وأذهبوا الأيام بالمدافعة، وأبطئوا عن فرض المسارعة.
والملك العادل هناك يحثهم ويحضهم ويحرضم، ويعينهم على تحصيل المراكب لهم وينهضهم. حتى لم يبلغ من دخل عشرين أميرا مقدمهم الأحمد سيف الدين المشطوب على بن أحمد. وأمر السلطان بالمناداة في الأبطال البطالين، ليحضروا لقبض النفقات؛ وكان يحضر الجاووش في كل يوم مئين، ويصبح نواب الديوان في أمرهم مرتبين. لحرصهم على توفير الدرهم، وبخلهم بالنفقة ويعدونها من المغرم. ومعظم من نصارى مصر، ومن هو مصر في نصرة النصارى، وفي تعسير ما يجب تسهيله وتعقيد ما يحب تحليله؛ لا يجارى ولا يبارى.