فاحتسبه عند الله والده، وكدرت عليه موارده. وأوجد جمعنا الأسى على فقد ذلك الواحد، وساء عدم الساعد، وبتنا نشكر مساعي ذلك المساعد. وضاقت القلوب، وفاضت الكروب. وألم البوس، وألمت النفوس.
وهذه وقعة ندرت، وواقعة بدرت، ونذير حدث وحادثة أنذرت. فلم يصب الكفار من المسلمين مذ أصيبوا غير هذه الكرة، وأذاقونا بعد أن حلا لنا جنى الفتوحات مرارة هذه المرة، فأيقظتنا من رقدة الغرة. وأخذ الناس حذرهم ونذروا وعقدوا على الانتقام نذرهم. ثم رجعوا إلى الله وقالوا: بهذا وعد الله حيث قال (فيقتلون ويقتلون)، وعبادة هم الذين يتبعون أمره ويمتثلون.
ثم قويت عزمة السلطان على قصدهم في مخيمهم، وكسبهم في مجثمهم. وعبور الجسر إليهم، والإحداق بهم من حواليهم. وشاع صيت هذا العزم وصوته، وأسرع الناس إلى موسمه وخشي فوته. وتسامع أهل البلاد بتصميم عزيمة الجهاد. فتباشروا وتبادروا، وتسابقوا وتسارعوا. وأتوا من كل فج، وجاءوا من كل نهج. وسألوا في كل واد، وجالوا في كل يفاع ووهاد. ووافت مطوعة دمشق وحوران، يجرون إلى مر الموت ويجرون المران. وتوافد من بالبرج والغوطة، على الحالة المغبوطة، وقالوا: هذا أوان إحضار الضوامر المربوطة.
واجتمعت (بمرج عيون)، جموع مرجت العيون. فخافت الفرنج من هذا الجمع، وأنافت على القمع. وتعكست إلى سور صور، وعاين أولئك البور الثبور. وتحرزوا وتحرسوا، وتوجلوا وتوجسوا. فاقتضت الحال تأخير قصدهم، ليتمكن
على غرتهم حشدنا من حصدهم.
وعاد العسكر إلى المخيم وسار السلطان إلى (تبنين)، صبيحة يوم الخميس السابع والعشرين. لتنقد أحوالها، وتؤمل أعمالها، وعرض رجالها ثم صار منها إلى عكاء جريدة، ورتب في عمارتها وولايتها أحوالا سديدة. ووصى رجالها بالاحتياط والتحفظ، والاستظهار والتيقظ. وأسرع عودته إلى العسكر، عظيم المفخز، كريم المعشر، موفق المورد والمصدر، مقرظ المنظر والمخبر. وأقام إلى يوم السبت سادس جمادى الآخرة، وبحر مخيمه يموج بأمواج العساكر الزاخرة.
وانتهى إلينا أن الفرنج ينتشرون في الأرض، وينبسطون في موضع القبض، ولا يحتفظون في الرفع والخفض، ويحتطبون ولا يحتاطون، ويخشون ولا يختشون. ويجنون ثمار الجبل، على من يصادفونه بأنواع الغيل. وهم في غرة من غارة،