بتحرير مسألة يبرزها للناس في تأليف، أو حكم، أو فتيا حتى يروض فكره في الأدلة القرآنية، ويبحث في مجاميع السنة، فينظر مثلا في جامع الأصول، فإن لم يجد فيه مطلوبه فليبحث الجامع الكبير للسيوطي، أو كنز العمال؛ فإن هذين الكتابين لا يشذ عنهما شيء من السنة إلا النادر الذي لا يقدح تجويز وجوده في الظن الحاصل للمجتهد، فهذه هي علوم الاجتهاد للمجتهد الناصب نفسه للإرشاد، فإن قصر في شيء منها وهو يظن وجوده عند غيره من المجتهدين الموجودين في عصره وقطره فهو لا يحصل له ذلك الظن الذي هو المعيار للاجتهاد إن كان ممن يتقي الله، ويخشى عقابه.
وأما إذا لم يوجد إلا من هو مثله أو دونه في عصره وقطره فعليه أن يبلغ غاية ما يقدر عليه، ويتعلم ما يجده من هذه العلوم على من يجده من أهلها ويبحث كلية البحث، ولا يضره بعد ذلك أن يكون في المجتهدين الأموات من هو أعلم منه، ولا في من سيحدث بعده من أهل الاجتهاد من هو أرسخ منه، ولا يقدح في ظنه الإصابة تجويز أن في أقطار الدنيا البعيدة عنه من هو أعلم منه، لأن الله لم يكلف أهل كل عصر بعلم الأموات، ولا بعلم من سيوجد، ولا بعلم من لا يعرف من الأحياء، بل أقام الله الحجة [14ب] على أهل كل عصر بمن يوجد لهم من الراسخين في العلم، وأخذ على العلماء البيان.
فإن قلت: الأحكام الشرعية متساوية الأقدام بالانتساب إلى الشرع، ومتساوية الأقدام من حيث التعلق بالمتشرعين عند وجود المقتضي، وفقد المانع، فكيف جعلت علوم الاجتهاد المعتبرة في عمل الرجل لنفسه دون العلوم المعتبرة في اجتهاد الرجل لإرشاد غيره!؟.
قلت: لأن الله - سبحانه - لم يتعبد عباده بالبيان للناس، إلا إذا كانوا أهلا للبيان والإرشاد، والمتأهلون لذلك هم الذين يثقون من أنفسهم بأنهم إنما أرشدوا العباد إلى ما هو حق، ولا تحصل هذه الثقة الحاصلة عن ظن الإصابة إلا لمن كان له من العلوم ما ذكرناه، بخلاف عمل الرجل لنفسه في أمر دينه الذي كلفه الله به، فإنه لا يجب عليه أن يقلد من هو أعلم منه، بل عليه أن يأتي بما أوجب الله عليه على الوجه الذي يطيقه ويقدر