الرِّوَايَتَيْنِ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَهَنَهُ فَقَدْ اسْتَحْفَظَهُ فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْحِفْظُ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلرَّاهِنِ صَارَ خَصْمًا فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَأَشْبَاهِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِإِثْبَاتِ الرَّهْنِ عَلَى الْغَائِبِ وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ لِإِثْبَاتِ الرَّهْنِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَلَا حَاجَةَ لِصَاحِبِ الْيَدِ إلَى إثْبَاتِ الرَّهْنِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ بِمُجَرَّدِ الْيَدِ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا وَدِيعَةٌ فِي يَدِهِ وَقَدْ أَجَابَ بِمِثْلِ هَذَا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي نَظَائِرِهِ، فَقَالَ: الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا أُسِرَ وَوَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ فَوَجَدَهُ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَهْنٌ عِنْدَهُ لِفُلَانٍ وَأَخَذَهُ لَا يَكُونُ هَذَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ بِالرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الرَّهْنِ فَإِنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ وَقْتَ الْأَسْرِ كَافٍ لَهُ؛ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ لِإِثْبَاتِ الرَّهْنِ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ. وَفِي جَامِعِ الْفَتَاوَى وَلَوْ أَرَادَ أَنْ لَا يُبْطِلَ الدَّيْنَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَشْتَرِيَ مِنْهُ عَبْدًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَا يَقْبِضُهُ فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ لَا يَبْطُلُ دَيْنُهُ وَلَوْ مَاتَ الْمَطْلُوبُ فَالطَّالِبُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَلَوْ قَضَى دَيْنَهُ فِي الْحَيَاةِ أَقَالَهُ الْبَيْعُ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا يُقْرِضَهُ رَبُّ الْمَالِ إلَّا دِرْهَمًا، ثُمَّ يُشَارِكَهُ بِالدَّرَاهِمِ الْبَاقِيَةِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا ثُمَّ عَمِلَ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
(الْفَصْلُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْمُزَارَعَةِ) الْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خِلَافًا لَهُمَا، قَالَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَجُوزَ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ أَنْ يَتَنَازَعَا إلَى قَاضٍ يَرَى الْمُزَارَعَةَ جَائِزَةً فَيَحْكُمُ بِجَوَازِهَا فَتَجُوزُ عِنْدَ الْكُلِّ. (وَحِيلَةٌ أُخْرَى) أَنْ يَكْتُبَا كِتَابَ الْإِقْرَارِ مِنْهُمَا يُقِرَّانِ فِيهِ أَنَّ رَقَبَةَ هَذِهِ الضَّيْعَةِ لِفُلَانٍ الَّذِي هُوَ مَالِكُهَا وَيُقِرَّانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ فِي يَدِ فُلَانٍ وَأَنَّ مُزَارَعَتَهَا لَهُ كَذَا كَذَا مِنْ السِّنِينَ فَيَزْرَعُهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ غَلَّةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ بِبَذْرِهِ وَنَفَقَتِهِ وَأَعْوَانِهِ، فَمَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَلَّتِهَا فِي هَذِهِ السِّنِينَ فَهُوَ كُلُّهُ لَهُ، وَيُقِرَّانِ أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ صَارَ لَهُ بِأَمْرِ حَقٍّ وَاجِبٍ لَازِمٍ فَإِذَا أَقَرَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ نَفَذَ إقْرَارُهُمَا عَلَيْهِمَا وَيَكُونُ كُلُّ الْغَلَّةِ لِلْمَزَارِعِ ثُمَّ إنَّ هَذَا الْمَزَارِعَ يَحْتَالُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي نِصْفِ الْغَلَّةِ أَيْضًا بِحِيلَةِ الْهِبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوَّلًا أَنَّهُمَا يَرْفَعَانِ إلَى قَاضٍ يَرَى جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ إلَى قَاضٍ مُوَلًّى حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ فَيَجُوزُ وَفِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ وَكَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - مَالُوا عَنْ تَجْوِيزِ حُكْمِ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ فِي هَذِهِ الْمُجْتَهَدَاتِ، وَقَالُوا: يُحْتَاجُ إلَى حُكْمِ قَاضٍ مُوَلًّى وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ