اصْطِلَاحٌ فِي اللَّفْظِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ أَهْلَ بَلَدٍ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ مَنْ لَا يَعْرِفُ اصْطِلَاحَهُمْ كَذَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ (1) ، ثُمَّ الْفَتْوَى مُطْلَقًا بِقَوْلِ الْإِمَامِ، ثُمَّ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ بِقَوْلِ زُفَرَ، ثُمَّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَقِيلَ: إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي جَانِبٍ وَصَاحِبَاهُ فِي جَانِبٍ فَالْمُفْتِي بِالْخِيَارِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُفْتِي مُجْتَهِدًا.
وَفِي الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِقُوَّةِ الْمُدْرِكِ كَذَا فِي النَّهْرِ الْفَائِقِ.
وَلِلْمُفْتِي وَالْإِمَامِ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَى الْخَاصَّةِ كَذَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ فَاسْتَوَى وَارْتَدَى وَتَعَمَّمَ، ثُمَّ أَفْتَى تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْإِفْتَاءِ كَذَا فِي التَّبْيِينِ.
أَوْرَدَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَحَادِيثَ فِي كَرَاهَةِ الدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ، وَفِي الرُّخْصَةِ فِيهِ، قَالَ: وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَامْتَنَعَ عَنْهُ قَوْمٌ صَالِحُونَ، وَتَرْكُ الدُّخُولِ أَمْثَلُ وَأَسْلَمُ وَأَصْلَحُ فِي الدِّينِ وَهَذَا فَصْلٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ أَنَّ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْقَضَاءِ فِي شَخْصٍ هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَقَلُّدُ الْقَضَاءِ.؟
قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ لَهُ التَّقَلُّدُ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِلَا سِكِّينٍ» وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ اُسْتُقْضِيَ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَتَجَانَّ، وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ يَخْدِشُ وَجْهَهُ وَيُمَزِّقُ ثِيَابَهُ فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْ رَأْسِ الْكُوَّةِ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: لَوْ قَبِلْتَ الْقَضَاءَ وَعَدَلْتَ كَانَ خَيْرًا، فَقَالَ يَا هَذَا أَوَعَقْلُكَ هَذَا؟ أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْقُضَاةُ يُحْشَرُونَ مَعَ السَّلَاطِينِ، وَالْعُلَمَاءُ يُحْشَرُونَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلِّفَ الْقَضَاءَ فَأَبَى حَتَّى ضُرِبَ تِسْعِينَ سَوْطًا، فَلَمَّا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ، فَسَوَّغَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ: لَوْ تَقَلَّدْتَ لَنَفَعْتَ النَّاسَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوْ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُرَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً لَكُنْتُ أَقْدَرَ عَلَيْهِ وَكَأَنِّي بِك قَاضِيًا فَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَذَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.
وَدُعِيَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى حَتَّى قُيِّدَ وَحُبِسَ فَاضْطُرَّ، ثُمَّ تَقَلَّدَ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ.
قَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْخَصَّافُ وَعُلَمَاءُ الْعِرَاقِ - وَعَلَيْهِ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمُذْهَبِ -: إنَّهُ لَا يَسُوغُ مَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ قَالَ مَشَايِخُ دِيَارِنَا: لَا بَأْسَ بِقَبُولِهِ لِمَنْ كَانَ صَالِحًا يَأْمَنُ مِنْ نَفْسِهِ الْجَوْرَ، وَالِامْتِنَاعُ لِغَيْرِهِ أَوْلَى فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَمَنْ تَلَاهُمْ قَبِلُوهُ بِلَا كُرْهٍ كَذَا فِي الْوَجِيزِ لِلْكَرْدَرِيِّ وَكُرِهَ التَّقَلُّدُ لِمَنْ يَخَافُ الْحَيْفَ فِيهِ، وَإِنْ أَمِنَ لَا يُكْرَهُ كَذَا فِي الْكَافِي وَفِي الْيَنَابِيعِ.