وَإِنَّك لَا تَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ احْتِجَابِهِ عَنْك، وَلَا مِنْ تَعْذِيبِك فِي النَّارِ، فَهَذَا الْكَلَامُ مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، فَاسِدٌ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّضَا الَّذِي لَا يُسْأَلُ، إنَّمَا لَا يَسْأَلُهُ لِرِضَاهُ عَنْ اللَّهِ، وَرِضَاهُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ. وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ رِضًا عَنْ اللَّهِ وَلَا مَحَبَّةٌ لِلَّهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَرْضَى أَنْ لَا يَرْضَى، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ وَلَا عَقْلُهُ.

يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاضِيَ إنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ وَالْآلَامِ مَا يَجِدُهُ مِنْ لَذَّةِ الرِّضَا وَحَلَاوَتِهِ، فَإِذَا فَقَدْ تِلْكَ الْحَلَاوَةَ وَاللَّذَّةَ امْتَنَعَ أَنْ يَحْتَمِلَ أَلَمًا وَمَرَارَةً، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا، وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ حَلَاوَةِ الرِّضَا مَا يَحْمِلُ بِهِ مَرَارَةَ الْمَكَارِهِ. وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ السَّكْرَانِ، وَالْفَانِي الَّذِي وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَلَاوَةَ الرِّضَا، فَظَنَّ أَنَّ هَذَا يَبْقَى مَعَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ مِنْهُ كَغَلَطِ سَمْنُونٍ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَسْأَلَ التَّمَتُّعَ بِالْمَخْلُوقِ، بَلْ يَسْأَلَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ غَلِطَ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْجَنَّةِ، وَهُوَ أَعْلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَيْضًا أَثْبَتَ أَنَّهُ طَالِبٌ مَعَ كَوْنِهِ رَاضِيًا.

فَإِذَا كَانَ الرِّضَا لَا يُنَافِي هَذَا الطَّلَبَ فَلَا يُنَافِي طَلَبًا آخَرَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَطْلُوبِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنْ تَمَتُّعَهُ بِالنَّظَرِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِسَلَامَتِهِ مِنْ النَّارِ، وَبِتَنَعُّمِهِ مِنْ الْجَنَّةِ بِمَا هُوَ دُونَ النَّظَرِ. وَمَا لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ، فَيَكُونُ طَلَبُهُ لِلنَّظَرِ طَلَبًا لِلَوَازِمِهِ الَّتِي مِنْهَا النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ، فَيَكُونُ رِضَاهُ لَا يُنَافِي طَلَبَ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ، وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ، وَلَا طَلَبَ حُصُولِ الْجَنَّةِ وَدَفْعَ النَّارِ، وَلَا غَيْرَهُمَا مِمَّا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ النَّظَرِ، فَتَبَيَّنَ تَنَاقُضُ قَوْلِهِ.

وَأَيْضًا فَإِذَا لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَسْتَعِذْ بِهِ مِنْ النَّارِ، فَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَلَبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَطْلُبَهُ، فَإِنْ طَلَبَ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَاسْتَعَاذَ مِمَّا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، فَطَلَبُهُ لِلْجَنَّةِ أَوْلَى، وَاسْتِعَاذَتُهُ مِنْ النَّارِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الرِّضَا أَنْ لَا يَطْلُبَ شَيْئًا قَطُّ وَلَوْ كَانَ مُضْطَرًّا إلَيْهِ، وَلَا يَسْتَعِيذُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ، وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015