يُثْبِتَ الْبَارِي مُتَكَلِّمًا وَلَوْ أَثْبَتَهُ مُتَكَلِّمًا لَأَثْبَتَهُ مُنْفَصِلًا، وَالْقَائِلُ لِهَذَا الْإِسْكَافِيُّ، وَعَبَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قُلْت: وَأَمَّا نَقْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ اتِّفَاقَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْبَارِيَ مُتَكَلِّمٌ، وَنَقَلَ مَنْ أُخِذَ ذَلِكَ عَنْهُ كَالرَّازِيِّ وَغَيْرِهِ. فَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ كَانَ يَأْخُذُ مَا يَذْكُرُهُ مَشَايِخُهُ الْبَصْرِيُّونَ وَمَا نَقَلُوهُ، وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ، فَيُوَافِقُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ فِي اللَّفْظِ وَهُمْ فِي الْمَعْنَى قَائِلُونَ بِقَوْلِ مَنْ نَفَى ذَلِكَ، فَإِذَا ذُكِرَ الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ ظَنَّ الْمُسْتَمِعُ لِذَلِكَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي تَغْيِيرِ اللَّفْظِ كَالنِّزَاعِ فِي تَغْيِيرِ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ النُّفَاةُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا كَمَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ مَنْ يُصَرِّحُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ وَافَقُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ نِفَاقًا مِنْ زَنَادِقَتِهِمْ وَجَهْلًا مِنْ سَائِرِهِمْ.

وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ مَحْضُ السُّنَّةِ وَصَرِيحُهَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّتُهَا وَقَدْ خَلَّصَهُ تَخْلِيصًا لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ إلَّا خَوَاصُّ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مَزَالَّ أَقْدَامِ الْأَذْكِيَاءِ الْفُضَلَاءِ فِي هَذِهِ الْمُهِمَّةِ الْغَبْرَاءِ، حَتَّى كَثُرَ بَيْنَ الْفَرْقِ مِنْ الْخُصُومَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَسَائِرِ النَّاسِ يَقُولُونَ بِذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: قَرَأْت فِي كِتَابِ شَاكِرٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: إنَّ الَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَزَالُوا يَعْبُدُونَ خَالِقًا كَامِلًا لِصِفَاتِهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا عِلْمَ ثُمَّ خَلَقَ عِلْمًا فَعَلِمَ بِخَلْقِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فَخَلَقَ كَلَامًا ثُمَّ تَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ سَمِيعًا بَصِيرًا ثُمَّ خَلَقَ سَمْعًا وَبَصَرًا: فَقَدْ نَسَبَهُ إلَى النَّقْصِ، وَقَائِلُ هَذَا كَافِرٌ. لَمْ يَزَلْ اللَّهُ كَامِلًا بِصِفَاتِهِ لَمْ تَحْدُثْ فِيهِ صِفَةٌ، وَلَا تَزُولُ عَنْهُ صِفَةٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَبَعْدَ مَا خَلَقَ الْخَلْقَ كَامِلًا بِصِفَاتِهِ، فَمِنْ وَجْهٍ أَنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ كَيْفَ يَتَكَلَّمُ بِشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَلَهَوَاتٍ، فَهَذِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ لَهُمَا: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] أَفَهَاهُنَا شَفَتَانِ وَلِسَانٌ وَلَهَوَاتٌ. قُلْت: أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيّ كَانَ يُشَبَّهُ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي حِفْظِهِ وَفِقْهِهِ وَدِينِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَأَحْمَدُ كَانَ عَظِيمَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، دَاعِيًا لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ. كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ حَنْبَلٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ حَنْبَلٌ فِي كُتُبِهِ مِثْلَ كِتَابِ السُّنَّةِ وَالْمِحْنَةِ لِحَنْبَلٍ.

قَالَ حَنْبَلٌ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى وَأَنَّ اللَّهَ يَضَعُ قَدَمَهُ، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015