بِاللَّفْظِ مَا لَمْ يَدُلُّوا الْخَلْقَ عَلَيْهِ.

وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ. فَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَهَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَصْلُ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَصِفُونَ الرُّسُلَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ بَلْ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ الْآمِرِ النَّاهِي لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إلَّا لِقِيَامِ الْكَلَامِ بِغَيْرِهِ مَعَ امْتِنَاعِ قِيَامِهِ بِهِ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.

وَزَعَمَتْ الْجَهْمِيَّةُ الْمُلْحِدَةُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْمُحَرَّفَةِ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الْمُبَدِّلَةِ لِدِينِ اللَّهِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِي اللُّغَةِ مِنْ فِعْلِ الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِغَيْرِهِ، كَالْجِنِّيِّ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ الْمَصْرُوعِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا يُسْمَعُ مِنْ الْمَصْرُوعِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِالْإِنْسِيِّ دُونَ الْجِنِّيِّ.

وَهَذَا مِنْ التَّمْوِيهِ وَالتَّدْلِيسِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ فَقَدْ نَازَعَهُمْ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِيَّةِ وَقَالُوا بَلْ الْمُتَكَلِّمُ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ كَمَا يَقُولُهُ الْكِلَابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ طَوِيلٌ.

وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَكْثَرُ النَّاسِ فَلَمْ يُنَازِعُوهُمْ هَذَا النِّزَاعَ، بَلْ قَالُوا: الْكَلَامُ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ فِعْلٌ لِلْمُتَكَلِّمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِهِ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ لَازِمًا لِمُتَكَلِّمٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْكَلَامُ، وَجَمِيعُ الْمَسْمُوعِ مِنْ اللُّغَاتِ وَالْمَعْلُومِ فِي فِطْرَةِ الْبَرِّيَّاتِ يُوَافِقُ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَكَلُّمُ الْجِنِّيِّ، عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْجِنِّيِّ كَلَامٌ وَلَكِنْ تَحْرِيكُهُ مَعَ ذَلِكَ لِجَوَارِحِ الْإِنْسِيِّ يُشْبِهُ تَحْرِيكَ رُوحِ الْإِنْسِيِّ لِجَوَارِحِهِ بِكَلَامِهِ وَيُشْبِهُ تَحْرِيكَ الْإِنْسَانِ بِكَلَامِهِ وَحَرَكَتِهِ وَتَصْوِيتِهِ كَمَا يُصَوِّتُ بِقَصَبَةٍ وَنَحْوِهَا مَعَ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَدْ قَامَ بِهِ مِنْ الْفِعْلِ مَا يَصِحُّ بِهِ نِسْبَةُ ذَلِكَ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُمْ: الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِغَيْرِهِ. كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّ الْفِعْلَ أَيْضًا لَا يَقُومُ بِغَيْرِ الْفَاعِلِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَقُومُ بِغَيْرِهِ هُوَ الْمَفْعُولُ.

وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْخَلْقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. فَهُوَ مِنْ بِدَعِ الْجَهْمِيَّةِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى خِلَافِ هَذَا وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَئِمَّةُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ قَالَ: فَفِيمَا يَسْأَلُ عَنْهُ بِأَوَّلًا يُقَالُ لَهُ: تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؟ فَلَا يَجِدُ، فَيُقَالُ لَهُ فَبِمَ قُلْتَ؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015