الْمُحْدِثِينَ لَبَلَغَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا كَثِيرَةً، لَكِنْ اخْتَصَرْتُ فَنَقَلْتُ عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ، وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ وَأَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ صَلْبِهِ، قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي سِنِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، فَأَمَّا جَعْدٌ فَقَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ، وَأَمَّا جَهْمٌ فَقُتِلَ بِمُرَوٍّ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَسَأَذْكُرُ قِصَّتَهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَصْلٌ: وَمَعَ هَذَا فَقَدْ حُفِظَ عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْقَوْلُ، وَفِي ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بِدُونِ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. فَرَوَى اللَّالَكَائِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُصَفَّى، وَمِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ جُمَيْعٍ أَبِي الْمُنْذِرِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا حَكَّمَ عَلِيٌّ الْحَكَمَيْنِ، قَالَتْ لَهُ الْخَوَارِجُ: حَكَّمْت رَجُلَيْنِ؟ قَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا إنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ آخَرَ إلَى عَلِيٍّ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَجَّاجٍ الْحَضْرَمِيُّ الْمُضَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ السَّكَنِ الْفَزَارِيّ، حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ يَزِيدَ الْكَلَاعِيُّ، قَالَ: قَالُوا لِعَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينَ حَكَّمْت كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا؟ قَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا، مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ.
وَهَذَا السِّيَاقُ يُبْطِلُ تَأْوِيلَ مَنْ يُفَسِّرُ كَلَامَ السَّلَفِ، بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْمُفْتَرِي الْمَكْذُوبُ، وَالْقُرْآنَ غَيْرُ مُفْتَرٍ وَلَا مَكْذُوبٍ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: حَكَّمْت مَخْلُوقًا، إنَّمَا أَرَادُوا مَرْبُوبًا مَصْنُوعًا خَلَقَهُ اللَّهُ، لَمْ يُرِيدُوا مَكْذُوبًا. فَقَوْلُهُ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا، نَفْيٌ لِمَا ادَّعَوْهُ، وَقَوْلُهُ: مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ، نَفْيٌ لِهَذَا الْخَلْقِ عَنْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَمِنْ الْمَحْفُوظِ الثَّابِتِ عَنْهُ، الَّذِي رَوَاهُ النَّاسُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ. مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي كَنَفٍ. قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ، قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ