وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يُبَيِّنُ أَنَّ إمْسَاكَ هَذَا الثَّمَنِ فُسُوقٌ، وَأَنَّ إنْفَاقَهُ فِسْقٌ، وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ مَا يَكُونُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ الثَّمَنُ حَلَالًا فَإِنَّا لَا نَعْنِي بِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الثَّمَنَ الَّذِي أَخَذَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَى مَالِكِهِ، كَمَا يَتَصَدَّقُ بِكُلِّ مَالٍ حَرَامٍ لَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ.
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَعَلَيْهِ دَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ حَرَامٌ وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ الرُّخْصَةَ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ لِمَنْ يُخَمِّرْهُ عَمَّنْ بَعْدَ التَّابِعِينَ مِثْلَ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ وَهَذَا مُطْلَقٌ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْمُشْتَرِي وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَدَّعِيَ عَدَمَ الْخِلَافِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ؟ . وَلَوْ قِيلَ لِقَائِلِ ذَلِكَ انْقُلْ لَنَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ الرُّخْصَةَ فِي ذَلِكَ لَا بَأْسَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ الْهُدَى وَالسَّدَادَ بِفَضْلِهِ وَمَنِّهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَبَيْنَ هَذَا أَنَّ الرِّضَا مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ فَنَقُولُ وَهَلْ الرِّضَا الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الرَّاضِي نَفْسِهِ إلَّا نَوْعٌ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ، أَوْ صِفَةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ، فَإِذَا كَانَ النَّوْعُ أَوْ الْمَلْزُومُ شَرْطًا فَالْجِنْسُ وَاللَّازِمُ شَرْطٌ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ وُجُودَ النَّوْعِ بِدُونِ الْجِنْسِ أَوْ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْفَرْقُ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْجَمْعِ؟ نَعَمْ قَدْ يَقُولُ الْمُنَازِعُ إنَّمَا اُشْتُرِطَ هَذَا لِلْقَدْرِ مِنْ الْقَصْدِ فَقَطْ، فَنَقُولُ إنَّمَا اشْتَرَطَهُ لِعَدَمِ قَصْدِ الْإِنْسَانِ فِي الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ إلْزَامُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِهِ فَقَطْ لِقَصْدٍ آخَرَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ ضَرَرًا لَا يَجُوزُ. فَنَقُولُ هَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمُحَلِّلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُحْتَالِينَ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ عَقْدٍ لَمْ يَرُدَّهُ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِهِ فَقَطْ لِقَصْدٍ آخَرَ يَسْتَحِلُّ بِهِ مُحَرَّمًا لَا يَجُوزُ. وَقَدْ بَيَّنَّا اعْتِبَارَ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ فِيمَا مَضَى، وَأَمَّا ذِكْرُ الشُّرُوطِ الْمُقْتَرِنَةِ فِي الْعَقْدِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا نَحْنُ فِيهِ، لَكِنْ إنَّمَا تُورَدُ فِيمَا إذَا تَوَافَقَا عَلَى التَّحْلِيلِ قَبْلَ الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ وَاقِعٌ كَثِيرًا، فَإِنَّ هَذَا أَقْبَحُ مِنْ مُجَرَّدِ الْقَصْدِ، وَحُكْمُ هَذَا حُكْمُ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُقْتَرِنِ وَالْمُتَقَدِّمِ فِيمَا مَضَى.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَنَقُولُ النِّيَّةُ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِمَعْنَيَيْنِ