تِلْكَ الْأَرَاضِي كَانَ آخِذً أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ الْمَعْمُولِ بِهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَطَّرِدْ بِأَنْ كَانَتْ مَرَّةً تُسْقَى مِنْ جَمِيعِهَا وَمَرَّةً تُسْقَى مِنْ بَعْضِهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا اخْتِصَاصٌ مُعَيَّنٌ مِنْ الْكُلِّ وَلَا مِنْ الْبَعْضِ، بَلْ الثَّابِتُ لَهَا مُطْلَقُ اسْتِحْقَاقِ الشُّرْبِ فَلِمَالِكِهَا اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ تِلْكَ الْأَرَاضِي كُلِّهَا وَمِنْ بَعْضِهَا وَلَا نَظَرَ إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُ بَعْضَ مَالِكِيِّ تِلْكَ الْأَرَاضِيَ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ وَعِنْدَ تَقَرُّرِ هَذَا الثُّبُوتِ لَا يُنْظَرُ لِلُحُوقِ ذَلِكَ الضَّرَرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) فِيمَا إذَا كَانَ مَوْضِعٌ فِي صَحْرَاءَ يَسِيلُ مَاؤُهُ فِي بُسْتَانِ شَخْصٍ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرَى نَحْوُ خَمْسِينَ ذِرَاعًا فَأَرَادَ شَخْصٌ أَنْ يَحْفِرَ فِيهِ بِئْرًا أَوْ يُجْرِيَ فِيهِ نَهْرًا أَوْ يَغْرِسَ فِيهِ غَرْسًا أَوْ يَبْنِيَ فِيهِ بَيْتًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ فِيهِ مَطْرَحُ رَمَادٍ وَسِرْجِينٌ وَقُمَامَاتٌ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ الَّذِي أُرِيدَ فِيهِ إحْدَاثُ مَا ذُكِرَ إنْ كَانَ مِنْ حَرِيمِ الْبَلَدِ أَوْ بَعْضِ مَزَارِعِهَا أَوْ أَنْهَارِهَا أَوْ مَجَارِي سُيُولِهَا الَّتِي تُرْوَى بِهَا مَزَارِعُهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ بَسَاتِينِهَا أَوْ مِنْ حَرِيمِ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ أَوْ مَجْرَى مَائِهِ لَمْ يَجُزْ فِيهِ إحْدَاثُ مَا ذُكِرَ إلَّا بِإِذْنِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي الْأُولَى أَوْ صَاحِبِ الْبُسْتَانِ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهِ اسْتِحْقَاقٌ فَهُوَ مَوَاتٌ فَلِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ إحْيَاؤُهُ وَمَنْ أَحْيَاهُ مَلَكَهُ بِشَرْطِهِ.
(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) سُؤَالًا صُورَتُهُ: سُئِلَ بَعْضُ الْمُفْتِينَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ صَحْرَاءَ يَسِيلُ مَاؤُهَا فِي مَعْمُورٍ فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبْنِيَ فِي تِلْكَ الصَّحْرَاءِ بَيْتًا بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ نُزُولَ الْمَاءِ إلَى الْمَعْمُورِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الْمَعْمُورِ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا فِي الصَّحْرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَهْلُ الْمَعْمُورِ إذَا لَمْ يَضُرُّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَهَذَا مِنْ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
جَوَابُهُ فَهَلْ جَوَابُكُمْ كَذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ الَّذِي يُرِيدُ الْبِنَاءَ فِيهِ إنْ كَانَ مَجْرَى مَاءِ الْمَعْمُورِ أَوْ مِنْ حَرِيمِهِ فَلِأَهْلِ الْمَعْمُورِ مَنْعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ فِيهِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ مُطْلَقًا، نَعَمْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْأَنْهَارَ الْمُبَاحَةَ فَضْلًا عَنْ الْمَمْلُوكَةِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حَافَّاتِهَا وَلَا فِي حَرِيمِهَا؛ لِأَنَّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا حَقًّا فَهِيَ كَالشَّوَارِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) سُؤَالًا صُورَتُهُ: قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ مِنْ الْبَابِ السَّابِعِ فِي الْفَتَاوَى إذَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ جُنْدِيًّا أَرْضًا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ إجَارَتُهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ نَعَمْ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِمَنْفَعَتِهَا وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهَا مُعَرَّضَةً لَأَنْ يَسْتَرِدَّهَا السُّلْطَانُ بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُؤَجِّرَ الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَرَّضَةً لَأَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْهَا بِفَسْخٍ أَوْ غَيْرِهِ اهـ.
قَالَ الْبُرْهَانُ الْفَزَارِيّ: وَكَانَ وَالِدِي يُفْتِي بِبُطْلَانِ إجَارَةِ الْإِقْطَاعِ وَمُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إجَارَةُ الْإِقْطَاعِ بِمُجَرَّدِ الْإِقْطَاعِ وَأَنَا مُوَافِقٌ فِي ذَلِكَ وَتَحْقِيقُ الْبَحْثِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ إلَى شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُقْطَعَ هَلْ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ الْمُقْطَعَةِ بِالْإِقْطَاعِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ مَلَكَهَا فَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا لَمْ تَصِحَّ بِمُجَرَّدِ الْإِقْطَاعِ وَكَأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا كَالْمُسْتَعِيرِ.
فَنَقُولُ: لَمْ يَمْلِكْهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: الْمُؤَبَّدُ مِنْ الْإِقْطَاعِ يَكُونُ تَمْلِيكًا وَيَكُونُ غَيْرَ تَمْلِيكٍ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لَمَّا قَدِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ أَقْطَعَ النَّاسَ الدُّورَ» مَعْنَاهُ أَنْزَلَهُمْ فِي دُورِ الْأَنْصَارِ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ إقْطَاعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُهَاجِرِينَ الدُّورَ عَلَى مَعْنَى الْعَارِيَّةِ فَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِقْطَاعِ الْمِلْكُ.
وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ وَكَانَ قَبْلَ الْإِقْطَاعِ لِغَيْرِ الْمُقْطَعِ قَطْعًا احْتَمَلَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءُ الْمِلْكِ الْمُحَقَّقِ فَلَا يَكُونُ الْمُقْطَعُ مَالِكًا عَمَلًا بِالْأَصْلِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ سِوَى مُجَرَّدِ الْإِقْطَاعِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُقْطَعُ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ فَلَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا التَّحْقِيقَ عَرَفْت انْدِفَاعَ الْقِيَاسِ الَّذِي