«لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ إلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» وَهَذِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَنَدِهَا مَجْهُولٌ لَكِنْ لَهَا شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَاسْتُفِيدَ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَرَاهَةُ صَوْمِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ سَوَاء أَكَانَ صَوْمُهُ يُضْعِفُهُ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا وَهُوَ الْأَصَحّ وَقِيلَ إنَّمَا يُكْرَه لِمَنْ أَضْعَفَهُ وَانْتَصَرَ لَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ وَنَقَلُوهُ عَنْ النَّصِّ وَقِيلَ لَا يُكْرَه وَقِيلَ يَحْرُمُ وَمِمَّا يَدُلُّ لِلْأَصَحِّ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُطْلَقَةُ كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ صُمْتِ أَمْسِ فَقَالَتْ لَا قَالَ تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا قَالَتْ لَا قَالَ فَأَفْطِرِي» .
وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ مِنْ حَالِهَا الضَّعْفَ فَنَهَاهَا عَنْ الْإِفْرَادِ. فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةُ حَالٍ قَوْلِيَّة يَعُمّهَا الِاحْتِمَالُ فَيُفِيدُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهَا فَلَيْسَ الْإِضْعَافُ فِي حَقِّهَا مَقْصُودًا أَصْلًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا نَظَرَ إلَيْهِ فِي الْكَرَاهَةِ وَاسْتُفِيدَ مِنْ الْحَدِيثِ الثَّانِي أَعْنِي قَوْلَهُ «فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ» أَنَّ عِلَّةَ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ وَطَعَامٍ فَأَشْبَهَ صَوْمَ الْعِيدَيْنِ فِي مُطْلَقِ النَّهْيِ، وَإِنْ افْتَرَقَا فِي أَنَّ النَّهْيَ فِيهِمَا لِلتَّحْرِيمِ وَهُنَا لِلتَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ عِيدًا حَقِيقَةً وَكَوْنُ الْعِلَّةِ ذَلِكَ هُوَ مَا ذَكَره الْحَلِيمِيّ وَأَشَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَقِيلَ الْعِلَّةُ أَنْ لَا يُبَالَغَ فِي تَعْظِيمِهِ كَالْيَهُودِ فِي السَّبْتِ وَقِيلَ لِئَلَّا يُعْتَقَدَ وُجُوبُهُ وَقَالَ النَّوَوِيُّ الصَّحِيحُ أَنَّ عِلَّةَ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ أَيْ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَسَوَابِقهَا وَلَوَاحِقهَا وَمِنْ الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ يَوْمَهُ لِيُصَادِفَ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِيهِ.
وَمُرَادُهُ أَنَّ الصَّوْمَ مَظِنَّةٌ لِلْإِضْعَافِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْكَرَاهَةِ بَيْنَ مَنْ يُضْعِفَهُ وَغَيْرِهِ نَظِيرَ صَوْمِ عَرَفَة لِلْحَاجِّ وَمَحِلُّ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِد إضْعَافَ نَفْسِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَنْ مَقَاصِدِ الْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا قَصَدَ الصَّوْمَ لَا غَيْرَ وَمَحِلُّهَا أَيْضًا فِي غَيْرِ الْفَرْضِ فَصَوْمُهُ عَنْ الْفَرْض لَا كَرَاهَةَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَمَحِلُّهَا أَيْضًا حَيْثُ لَمْ يُوَافِق عَادَةً لَهُ فَمَنْ عَادَتُهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَفِطْرُ يَوْمٍ إذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَبْلَهُ فِطْرٌ وَبَعْدَهُ فِطْرٌ لَا كَرَاهَةَ فِي صَوْمِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَئِذٍ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَام لِخَبَرِ مُسْلِمٍ «وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومهُ أَحَدُكُمْ» وَقِيَاسًا عَلَى مَا قَالُوهُ فِي صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ بَلْ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ ثَمَّ لِلتَّحْرِيمِ وَهُنَا لِلتَّنْزِيهِ فَإِذَا مَنَعَ ذَلِكَ الِاعْتِيَادُ الْحُرْمَةَ فَلَأَنْ يَمْنَعَ الْكَرَاهَةَ أَوْلَى.
وَنَازَعَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي انْعِقَادِ صَوْمِهِ حَيْثُ كُرِهَ بِأَنَّ قِيَاسَ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ يَقْتَضِي عَدَمَ الِانْعِقَادِ هُنَا كَمَا هُنَاكَ وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ ثَمَّ ذَاتِيَّةٌ وَهِيَ يَسْتَحِيلُ مَعَهَا الِانْعِقَادُ وَإِنَّ قُلْنَا أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلتَّنْزِيهِ كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ، وَأَمَّا هُنَا فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الصَّوْمِ وَهُوَ مَا مَرَّ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ فَانْعَقَدَ صَوْمه بَلْ وَيَنْعَقِدُ نَذْرُ صَوْمِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي بَابِ النَّذْرِ فَالتَّوَقُّفِ فِيهِ غَفْلَةٌ عَنْ كَلَامِهِمْ ثَمَّ، وَفِي الْأُمِّ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَوَافَقَ يَوْمَ فِطْرٍ أَفْطَرَ وَقَضَى قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ كَرَاهَةُ إفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ إذْ لَوْ كَرِهَهُ لَمَا حَكَمَ بِانْعِقَادِ نَذْرِهِ فِيمَا يَظْهَر اهـ وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ الْمُنَافِيَةَ لِلِانْعِقَادِ هِيَ الْكَرَاهَةُ الذَّاتِيَّةَ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ الْعَرْضِيَّةُ فِيمَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ فَلَا تُنَافِي انْعِقَادَ النَّذْرِ.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى التَّنْبِيهِ وَلَوْ أَرَادَ اعْتِكَافَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ وَلَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ وَلَا عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ بَعْدَهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَال يُكْرَه لَهُ صَوْمُهُ لِلْإِفْرَادِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَال يُسْتَحَبُّ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ وَلِيَصِحَّ اعْتِكَافُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَرَطَ فِيهِ الصَّوْمَ اهـ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَقَدْ يُقَالُ يُكْرَه تَخْصِيصُهُ بِالِاعْتِكَافِ كَالصَّوْمِ وَقِيَامِ لَيْلَتِهِ اهـ وَفِيهِ نَظَرٌ وَالْوَجْهُ عَدَمُ كَرَاهَةِ اعْتِكَافه؛ لِأَنَّهُ لَا إضْعَافَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ بِخِلَافِ صَوْمِهِ وَقِيَامِ لَيْلَتِهِ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ تَرْجِيحُهُ مِنْ احْتِمَالَيْ النَّوَوِيِّ أَوَّلُهُمَا وَمَا عَلَّلَ بِهِ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ لَا يَقْتَضِي مَنْعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
وَيُكْرَهُ أَيْضًا