حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ الزَّوْجُ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَنَّ بَيْتَهَا مَلْآنُ طَعَامًا فَمَا الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْمِلْءِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَمْلُوءًا حَقِيقَةً أَوْ يُدَيَّنُ وَيَرْجِعُ إلَى قَصْدِهِ بَيِّنُوا لَنَا الْجَزْمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الْبَيْنُونَةُ، أَوْ عَدَمُهَا فَالْمَسْأَلَةُ وَاقِعَةٌ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنْ كَانَ لِلزَّوْجِ نِيَّةٌ عُمِلَ بِهَا وَإِلَّا فَمَتَى لَمْ يَكُنْ بَيْتُهَا مَلْآنَ مِنْ الطَّعَامِ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فَقَدْ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَبَحَثَهُ الشَّيْخَانِ فِي مَوْضِعٍ وَجَزَمَا بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا حَتَّى تَمُوتَ حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا الْمَجَازِ فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَأْتِي فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ كَتَبَ إلَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - السَّائِلُ أَيْضًا مَا لَفْظُهُ: هَذَا جَوَابُكُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَقَدْ أَفَدْتُمْ كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَكُمْ وَأَدَامَ بِكُمْ النَّفْعَ وَالْحَالُ أَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا حَلَفَ مِنْ زَوْجَتِهِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ فِرَاقَهَا؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوءًا حَقِيقَةً وَاعْتَمَدَ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ النَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ إنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تُصْرَفُ إلَى الْمَجَازِ بِالنِّيَّةِ إلَّا فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الرَّوْضَةِ فِي الْأَيْمَانِ وَكَذَلِكَ عِبَارَةُ الرَّوْضِ وَشَرْحِهِ فِي الْأَيْمَانِ فَرْعٌ قَدْ يُصْرَفُ مِنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ بِالنِّيَّةِ كَلَا أَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ وَنَوَى مَسْكَنَهُ دُونَ مِلْكِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ آدَمِيٍّ.
قَالَ الشَّارِحُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا بِأَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ كَأَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ.
وَعِبَارَةُ الْمُزَجَّدِ فِي الْعُبَابِ فِي الْإِيمَانِ فَرْعٌ: لَوْ قَالَ الْحَالِفُ أَنْ لَا يَدْخُلَ أَرَدْت شَهْرًا مَثَلًا قُبِلَ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا الْآدَمِيِّ كَطَلَاقٍ وَإِيلَاءٍ وَعِتْقٍ لَكِنْ يُدَيَّنُ وَاعْتَمَدَ الْحَاكِمُ بِالْفُرْقَةِ هَذِهِ النُّصُوصَ وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى فُقَهَاءِ الْبَلَدِ وَقَالُوا الْمُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ وَلَا طَلَاقَ وَأَرَادُوا صَرْفَ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ بِالنِّيَّةِ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَأَرْسَلُوا إلَيْك الصُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ وَلَمَّا وَرَدَ الْجَوَابُ الْكَرِيمُ قَامُوا بِهِ عَلَى الْحَاكِمِ بِالْفُرْقَةِ وَقَالُوا لَهُ: قَدْ أَجَابَ الشَّيْخُ عَلَى وَفْقِ كَلَامِنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ نِيَّتُهُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَلْبَتَّةَ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا فَقَالَ لَهُمْ الْحَاكِمُ مَا أَرَادَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ حَجَرٍ - عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ لَكِنْ يُدَيَّنُ كَمَا جَزَمَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا كَمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ سُؤَالِكُمْ فَإِنَّكُمْ قُلْتُمْ فِي السُّؤَالِ يُدَيَّنُ، أَوْ تَقَعُ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى وَكَانَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ وَمِنْ الْآنِ فَالْمَسْئُولُ مِنْ التَّفَضُّلَاتِ الْكَرِيمَةِ إزَاحَةُ الْإِشْكَالِ بِجَوَابٍ شَافٍ صَرِيحٍ يُبَيِّنُ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيُدَيَّنُ بِحَيْثُ إنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ أَمْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَصْلًا وَأَنَّ الْحَقِيقَةَ تُصْرَفُ إلَى الْمَجَازِ بِالنِّيَّةِ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّينَ كَمَا زَعَمُوا أَمْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَصْلًا.
وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فَمَا مَعْنَى هَذِهِ النُّصُوصِ الْجَازِمَةِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: مَا أَفْتَيْت بِهِ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ نِيَّةٌ عَمِلَ بِهَا أَيْ: ظَاهِرًا أَيْضًا هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ كَمَا يَأْتِي وَلَا يُعَارِضُهُ مَا ذُكِرَ عَنْ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ فِي نِيَةِ مَجَازٍ لَا قَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ وَتُعَضِّدُهَا أَمَّا إذَا نَوَى غَيْرَ الْحَقِيقَةِ مِمَّا يَتَجَوَّزُ بِهِ عَنْهَا وَقَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ تِلْكَ النِّيَّةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي مَسَائِلَ فِي الطَّلَاقِ لَا تُحْصَى بَلْ قَدْ تَزْدَادُ قُوَّةُ الْقَرِينَةِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى قَضِيَّتِهَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ رَأَيْت مِنْ أُخْتِي شَيْئًا وَلَمْ تُخْبِرِينِي بِهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مُوجِبِ الرِّيبَةِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا إنْ رَأَتْ مِنْهَا مُوجِبَ رِيبَةٍ وَلَمْ تُخْبِرْهُ بِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأَتْ مِنْهَا غَيْرَهُ وَلَمْ تُخْبِرْهُ عَمَلًا بِالْقَرِينَةِ الْمُخَصَّصَةِ لِلْعَامِّ فِي قَوْلِهِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ.
فَكَذَا فِي صُورَةِ السُّؤَالِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا طَالَبَتْهُ هِيَ، أَوْ وَكِيلُهَا بِكِفَايَتِهَا كَانَتْ مُدَّعِيَةً عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ طَعَامٌ فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ مَلْآنُ طَعَامًا كَانَتْ الْقَرِينَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمِلْءَ الْحَقِيقِيَّ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا يُكَذِّبُ دَعْوَاهَا وَكَانَ قِيَاسُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَدَمُ الْحِنْثِ فِي هَذِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَكِنَّ الْقَرِينَةَ لَمْ تَقْوَ فِيهَا قُوَّتَهَا فِي تِلْكَ أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْأُخْتِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي مَسْأَلَةِ الْأُخْتِ نِيَّةٌ وَاشْتَرَطْنَاهَا فِي مَسْأَلَتِنَا لِمَا عَرَفْت مِنْ قُوَّةِ الْقَرِينَةِ ثَمَّ لَا هُنَا.
وَمِمَّا يَدُلُّ لِمَا ذَكَرْته