مُسلما لم يقل بتكفيره أحد؟ بل قَالَ جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين باستحسانه كَمَا سأبينه لَك من كَلَامهم فَإِن قَصَد بتكفيره لقَائِل ذَلِك تَسْمِيَة دينه كفرا فقد كفر وَيضْرب عُنُقه إِن لم يتب لِأَنَّهُ سمى الْإِسْلَام كفرا، وَإِن لم يقْصد ذَلِك حرم عَلَيْهِ هَذَا الْإِنْكَار وَاسْتحق عَلَيْهِ الزّجر والتأديب البليغ وَوَجَب على حَاكم الشَّرِيعَة المطهرة وفقَّه الله وسَدَّده أَن يُبَالغ فِي زَجره وتعزيره بِمَا يرَاهُ زاجراً لَهُ عَن هَذِه المجازفات القبيحة والتهورات الشنيعة، وَقد بَلغنِي أَنه حكم على قَائِل ذَلِك بالْكفْر واستسلمه وَأمره بِالشَّهَادَتَيْنِ وَهَذَا مِنْهُ مُبَالغَة فِي الْإِثْم والفسوق وجراءة على الله وَنبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى الشَّرِيعَة الغراء حَيْثُ أحدث فِيهَا مَا لم يسْبق إِلَيْهِ على أَنه لَو سلم ذَلِك لَكَانَ من الْوَاجِب عَلَيْهِ أَن يعرف هَذَا الْعَاميّ الحكم فَإِن أطاعه فَظَاهر وَإِن خَالفه نَهَاهُ، وَأما مبادرته لعامي صدرت مِنْهُ كلمة لَا يفهم مِنْهَا إِلَّا غَايَة الإجلال والتعظيم لجنابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرفيع، وَقَوله لذَلِك الْعَاميّ بِمُجَرَّد أَن صدرت مِنْهُ تِلْكَ الْكَلِمَة كفرت أَو نَحْو ذَلِك فَهِيَ دليلة على جَهله وغباوته، وَأَنه لَا يدْرِي شَرط الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَمَا يكفر بِهِ الْإِنْسَان وَمَا لَا يكفر بِهِ، وَكَفاك شَاهدا على ذَلِك مَا وَقع لَهُ فِي هَذِه الْقَضِيَّة الَّتِي كثر كَلَام الْعلمَاء فِيهَا بِمَا لم يحط بِهِ علم هَذَا الرجل وَلَا أَنْتَهِي إِلَيْهِ فهمه فَكَانَ عَلَيْهِ الرُّجُوع فِيمَا لَا يعرفهُ إِلَى أَهله العارفين ليبينوا لَهُ حكمه وَكَلَام الْعلمَاء فِيهِ، وَلَيْسَت هَذِه الْمَسْأَلَة من مخترعات الْمُتَأَخِّرين بل أَشَارَ إِلَيْهَا أكَابِر الْمُتَقَدِّمين كَالْإِمَامِ الْحَلِيمِيّ وَصَاحبه الْبَيْهَقِيّ، وناهيك بهما إِمَامَة وجلالة، وتبعهما إِمَام الْمُتَأَخِّرين مُحَرر الْمَذْهَب أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فَقَالَ فِي روضته ومنهاجه فَقَالَ فيهمَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزاده فضلا وشرفاً لَدَيْهِ وناهيك بِهَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ، وَكَأن هَذَا الْمُنكر لم يقْرَأ فِي الْفِقْه وَلَا الْمِنْهَاج وَمن هَذَا شَأْنه كَيفَ يُبَادر بِهَذَا الْإِنْكَار وَهَذَا التهور؟ وَإِذا علمت تَصْرِيح النَّوَوِيّ بِهِ فِي هذَيْن الْكِتَابَيْنِ اللَّذين هما عُمْدَة الْمَذْهَب علمت فَسَاد إِنْكَار هَذَا الْجَاهِل وَأَن مَا توهمه من أَن سُؤال الزِّيَادَة يَقْتَضِي أَن فِي مقَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نقصا توهم بَاطِل لَا دَلِيل عَلَيْهِ، كَيفَ وَقد صرح الإمامان الجليلان الْحَلِيمِيّ وَالْبَيْهَقِيّ بِمَا يزيفه ويبطله، وَعبارَة الأول فِي (شعب الْإِيمَان) : فَإِذا قُلْنَا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد فَإِنَّمَا نُرِيد اللَّهُمَّ عظم مُحَمَّدًا فِي الدُّنْيَا بإعلاء ذكره وَإِظْهَار دينه وإبقاء شَرِيعَته، وَفِي الْآخِرَة بتشفيعه فِي أمته وإجزال أجره ومثوبته وإبداء فَضله للأولين والآخرين بالْمقَام الْمَحْمُود وتقديمه على كَافَّة المقربين بالشهود. قَالَ: وَهَذِه الْأُمُور وَإِن كَانَ الله تَعَالَى قد أوجبهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن كل شَيْء مِنْهَا دَرَجَات ومراتب فقد يجوز إِذا صلى عَلَيْهِ وَاحِد من أمته فاستجيب دعاؤه فِيهِ أَن يُزَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك الدُّعَاء فِي كل شَيْء مِمَّا سميناه رُتْبَة ودرجة، وَلِهَذَا كَانَت الصَّلَاة مِمَّا يقْصد بهَا قَضَاء حَقه ويتقرب بأدائها إِلَى الله تَعَالَى، وَيدل على أَن قَوْلنَا اللَّهم صل على مُحَمَّد صَلَاة منا عَلَيْهِ أَنا لَا نملك إِيصَال مَا يعظم بِهِ أمره ويعلو بِهِ قدره إِلَيْهِ إِنَّمَا ذَلِك بيد الله تَعَالَى فصح أَن صَلَاتنَا عَلَيْهِ الدُّعَاء لَهُ بذلك وابتغاؤه من الله جلّ ثَنَاؤُهُ انْتهى كَلَام الْحَلِيمِيّ فِي شعبه، فَتَأمل قَوْله: وإجزال أجره ومثوبته، وَقَوله: أَن يُزَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره تَجدهُ مُصَرحًا بِأَن مقَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل الزِّيَادَة فِي الثَّوَاب وَغَيره من سَائِر الْمَرَاتِب والدرجات وَيُؤَيِّدهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ أكمل الْخلق وأفضلهم لَكِن لَا تحصر وَلَا تحصى غايات كمالاته الْعلية بل هُوَ دَائِم الترقي فِي تِلْكَ الغايات وَلَا حد لَهَا انْتِهَاء والمقامات السّنيَّة مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهِ وَيعلم كنهه إِلَّا الله تَعَالَى، وكماله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ جلالته لَا يمْنَع احْتِيَاجه إِلَى زِيَادَة مزِيد وترقّ واستمداد من فَضله تَعَالَى وجوذه وَكَرمه، فَإِنَّهُ لَا انْتِهَاء لفضله الْوَاسِع وَلَا انْتِهَاء لكماله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المستمد من ذَلِك. وَعبارَة الْبَيْهَقِيّ فِي (تَفْسِيره) : السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَيحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى السَّلامَة: أَي ليكن قضى الله عَلَيْك السَّلَام، وَالسَّلَام كالمقام والمقامة: أَي سلمك الله من المذام والنقائص. فَإِذا قلت: اللَّهم سلم على مُحَمَّد إِنَّمَا تُرِيدُ اللَّهُمَّ اكْتُبْ لمُحَمد فِي دَعوته وَأمته وَذكره السَّلامَة من كل نقص فتزداد دَعوته على ممر الْأَيَّام علوا وَأمته تكاثراً وَذكره ارتفاعاً انْتهى. فَتَأَمّله تَجدهُ صَرِيحًا فِيمَا أَفَادَ كَلَام شَيْخه الْحَلِيمِيّ مِمَّا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ، وَإِذا صرح هَذَانِ الأمثلان بذلك وتبعهما النَّوَوِيّ فَأَي شُبْهَة بقيت فِي هَذَا الْمحل يتشبث بهَا هَذَا الْمُنكر الْجَاهِل وَكَأَنَّهُ لم يستحضر مَا يَقُوله عِنْد كل سنة عِنْد رُؤْيَة