ومع الدعاء والتضرع إلى الله، علينا أن نضع القرآن في أعلى سلم أولوياتنا واهتمامتانا، وأن نعطيه أفضل أوقاتنا، ونمكث معه أطول فترة ممكنة، فعلى قدر ما سنعطي للقرآن سيعطينا ويكرمنا، فهو كما أخبر عنه الله عز وجل {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77].
إن طول المكث مع القرآن من شأنه أن يسرع خطى التغيير المنشود .. تغيير العقل وإعادة تشكيله، وبناء اليقين الصحيح فيه، وتغيير القلب وطرد حب الدنيا والهوى منه، وترويض النفس على لزوم الصدق والإخلاص.
فكتاب هذا شأنه ينبغي أن نسلم له زمام قيادتنا ونترك أنفسنا له، وأن نكثر من الجلوس وعقد اللقاءات معه كلما سنحت الفرصة لذلك. وليس معنى هذا إهمال العلوم الأخرى وإنما تفريغ الوقت الأكبر لهذا الكتاب.
وعلينا كذلك أن نهيئ مكانا للقائه بعيدا عن الضوضاء، وعن كل ما من شأنه أن يشوش على الذهن ويقلل التركيز.
ومن الأمور التي ينبغي أن نتقنها منذ البداية: تصحيح النطق بالقرآن وتعلم أحكام التجويد، فسلامة النطق من الأهمية بمكان لفهم القرآن، وكذلك أحكام التلاوة والتي من شأنها أن تيسر على القارئ ترتيل القرآن.
فإن قال قائل: ولماذا الترتيل؟ ألا يكفي سلامة النطق؟
إن للترتيل الكثير من الفوائد فضلا عن كونه واجبا على قارئ القرآن، فمن فوائده: إطالة مدة قراءة الآية مما يتيح للعقل فرصة فهم المقصود منها.
يقول ابن حجر في شرحه لباب الترتيل في القراءة في صحيح البخاري: أي تبين حروفها، والتأني في أدائها ليكون أدعى إلى فهم معانيها (?).
ومن فوائده كذلك: أنه يستثير المشاعر، وكما قيل في الصفحات السابقة، فإن العبرة ليست بالتدبر العقلي فقط ولكن لابد أن يصحب ذلك انفعال وجداني ليحدث التأثر القلبي ويزداد الإيمان. لذلك نجد التوجيه النبوي بالتغني بالقرآن، أي بتحسين الصوت وتزيينه، وكذلك التباكي عند قراءته لمن لم يستطع البكاء .. كل ذلك لتستثار المشاعر ويتحقق المقصود من القراءة.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنوا به، فمن لم يتغن به فليس منا» (?).
إن تلاوة القرآن حق تلاوته كما يقول أبو حامد الغزالي هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزعاج والائتمار .. فاللسان يرتل، والعقل يترجم، والقلب يتعظ (?).
مما لا شك فيه أن من يقبل على القرآن مستشعرا أنه خطاب من الله عز وجل موجه إليه يحمل في طياته مفاتيح سعادته في الدنيا والآخرة، وأنه القادر بإذن الله على تغييره مهما كان حاله .. لا شك أن هذا الشخص لا يحتاج إلى من يدله على وسائل تعينه على الانتفاع بالقرآن، لأنه بهذا الشعور قد أصبح مهيأ للتغيير الذي يقوم به القرآن.
أما وإنه من الصعب علينا في البداية أن نكون كذلك بسبب ما ورثناه من أشكال التعامل الخاطئ مع القرآن، مما يجعل هناك حاجزا نفسيا بيننا وبينه يمنعنا من الانتفاع الحقيقي به.
أما والأمر كذلك فإن عودتنا إلى القرآن تحتاج إلى وسائل سهلة وعملية ومحددة تعين صاحبها على إدارة وجهه للقرآن، والإقبال على مأدبته، والدخول إلى عالمه ومصنعه بصورة متدرجة.