كتابنا، مصدر عزنا، النور المبين، والهدى والشفاء: أدرنا له ظهورنا وتعاملنا معه بطريقة غريبة وشاذة، وأصبحنا لا نستدعيه إلا في المآتم وأوقات المرض، وشهر رمضان، وغيره من المناسبات، واكتفينا بالتعامل مع ألفاظه فقط، والنظر إلى الثواب المترتب على قراءته، وإذا أردنا الدليل على ذلك، فليسأل كل منا نفسه: ما الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه حين يقرأ القرآن؟ أليس هو إنهاء الورد وتحقيق أكبر قدر من الحسنات؟
ألهذا الهدف فقط نزل القرآن؟
إن خير دليل على عدم صحة تعاملنا مع القرآن هو واقعنا نحن، فبالرغم من وجود عشرات بل مئات الآلاف من حفاظ القرآن على مستوى الأمة، وبالرغم من انتشار المصاحف في كل مكان بصورة لم تكن موجودة في العصور الأولى إلا أن الأمة لم تجن ثمارا حقيقية لهذا الاهتمام الشكلي بالقرآن.
لقد اهتدى الجيل الأول بنور القرآن فانصلح حاله، وساد الأرض في سنوات معدودة، وبغير هذا النور لن ينصلح حالنا، فكما قال الإمام مالك: لا يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها .. وما صلح أولها إلا بالقرآن.
والأمر اللافت للانتباه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك، وأنها ستكون فتن وأن المخرج منها الاستمساك بالقرآن واتباعه، وأخبر كذلك أن القرآن والسلطان سيفترقان، وأن علينا أن نكون مع القرآن.
قال صلى الله عليه وسلم: «أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر فيوشك أن يأتى رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضل، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وأهل بيتى، أذكركم الله فى أهل بيتى» (?).
وعندما سأله حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أبعد هذا الخير الذي نحن فيه من شر نحذره؟ قال: «يا حذيفة، عليك بكتاب الله فتعمله واتبع ما فيه» حتى قال ذلك ثلاث مرات، قلت: نعم (?).
إن التمسك بالقرآن يعني أول ما يعني اتباعه واتخاذه دليلا وقائدا يقودنا إلى الله، قال الشعبي في قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]: أما إنه كان بين أيديهم ولكن نبذوا العمل به، فهذا يُبين لك أن من نبذ شيئا فقد تركه وراء ظهره (?).
فالمطلوب منا إذن تجاه القرآن يختلف عما نفعله .. المطلوب منا أن نكون معه كما كان الجيل الأول معه، ليفعل بنا كما فعل بهم، فالماكينات القرآنية - إن جاز هذا التعبير - جاهزة للعمل ولا ينقصنا سوى دخولنا إليها.
وخلاصة القول أن تغيير هذا الواقع المرير الذي تعيشه الأمة، والذي أصبحت من خلاله تحت الأقدام لن يتم إلا إذا حدث تغيير حقيقي في الأفراد، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
هذا التغيير لن يتم بصورة جذرية إلا من خلال العودة الحقيقية إلى القرآن كمصدر للهداية والتوجيه، وكمصنع للتغيير الحقيقي في كيان الإنسان، ليجعل منه مؤمنا صادقا قولا وسلوكا، سرا وعلانية.
قد يتساءل البعض: وماذا يمكن للقرآن أن يفعله؟!
إن القرآن سيفعل الكثير والكثير بعون الله عز وجل، وسيظهر انتاجه في وقت قصير شريطة حسن التعامل معه.
- فالقرآن - كما مر علينا - سيعيد تشكيل العقل، وبناء اليقين الصحيح فيه، ليثمر ذلك انسجام القول مع الفعل.