فالقرآن يثبت القلوب، ويدحض الشبهات، ويذكر بالثوابت والأولويات، ويحل المشكلات ويوضح الرؤية كلما علا الغبش وكثر الضباب في الطريق .. هذا كله لا يستطيع أن يدركه من أغلق الباب على نفسه ورضي بالقعود.
فهذا القرآن كما يقول سيد قطب رحمه الله: لا يدرك إسراره قاعد، ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به ويتحرك به (?).
ويقول: إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة، ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل ليواجهها ويوجهها.
والذين يلتمسون معاني القرآن ودلالاته وهو قاعدون، يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يمكلون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة، إن حقيقة هذا القرآن لا تنكشف للقاعدين أبدا (?).
إن القرآن هو خير زاد للصف المسلم الذي تعقد عليه الأمة آمالها .. وهو نعم الصديق الذي يخفف عن صديقه معاناته، ويملؤه بالأمل، ويشحذ همته للاستمرار في مواجهة المعرضين عن الدعوة .. ويذكره بأن ما يحدث له قد تكرر كثيرا مع أصحاب الدعوات {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 43].
يقول سيد قطب رحمه الله: إن هذه الطلائع - طلائع البعث الإسلامي - في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه: تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها، وتستوحيه فيما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات، وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق.
والقرآن بهذه الصورة لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة، ولكنه ينتفض حيا يتنزل اللحظة على الجماعة المسلمة المتحركة لتتحرك به، وتتابع توجيهاته، وتتوقع موعود الله فيه.
ويستطرد قائلا: وهذا ما نعنيه بأن هذا القرآن لا ينفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به لتحقيق مدلوله في عالم الواقع. لا لمن يقرؤونه لمجرد التبرك، ولا لمن يقرؤونه لمجرد الدراسة الفنية والعلمية، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه.
إن هؤلاء جميعا لن يدركوا من هذا القرآن شيئا يذكر، فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو. إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه (?).
فلنبحث عن العاملين للإسلام الداعين إليه، الذين يتحركون به حركة شاملة فنضع أيدينا في أيديهم ونسير معا وراء القرآن متجهين إلى الله عز وجل.
قال صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (?).
إن وجود حلقات المدارسة القرآنية من الأهمية بمكان لتعليم الناس كيف يدخلون إلى عالم القرآن فيهتدون بهداه، ويستشفون بشفائه.
هذه الحلقات وإن كانت منتشرة في المساجد هنا وهناك إلا أن مفهومها قد اختُزِل على تعلم أحكام التجويد، وتصحيح النطق فقط، وهذا الأمر - كما أشرنا سابقا - مهم وضروري ولكنه لا يكفي لتعلم القرآن كما يريد الله عز وجل، بل هو بداية لابد أن يتبعها تعلم المعاني وجوانب الهدى والإيمان فيما يُتلى من آيات، فيسهل على من يواظب عليها التعامل مع القرآن بمفرده.
في هذه الحلقات نتعرف على الله عز وجل أكثر وأكثر من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله، التي أكثر القرآن من ذكرها لنستدل بها عليه - سبحانه وتعالى - إلها واحدا خالقا، عزيزا رحيما ودودا رءوفا غنيا حيا قيوما ..