إيثار ما عند الله على متاع الدنيا

قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] ..

إن في هذه الأرض متاعا جذابا براقا، وهناك أرزاق وأولاد وشهوات ولذائذ وجاه وسلطان وهناك نعم آتاها اللّه لعباده في الأرض تلطفا منه وهبة خالصة، لا يعلقها بمعصية ولا طاعة في هذه الحياة الدنيا. وإن كان يبارك للطائع - ولو في القليل - ويمحق البركة من العاصي ولو كان في يده الكثير.

ولكن هذا كله ليس قيمة ثابتة باقية. إنما هو متاع. متاع محدود الأجل. لا يرفع ولا يخفض، ولا يعد بذاته دليل كرامة عند اللّه أو مهانة ولا يعتبر بذاته علامة رضى من اللّه أو غضب. إنما هو متاع. «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى» .. خير في ذاته. وأبقى في مدته. فمتاع الحياة الدنيا زهيد حين يقاس إلى ما عند اللّه، ومحدود حين يقاس إلى الفيض المنساب. ومتاع الحياة الدنيا معدود الأيام. أقصى أمده للفرد عمر الفرد، وأقصى أمده للبشرية عمر هذه البشرية وهو بالقياس إلى أيام اللّه ومضة عين أو تكاد.

وبعد تقرير هذه الحقيقة يأخذ في بيان صفة المؤمنين الذين يذخر اللّه لهم ما هو خير وأبقى.

ويبدأ بصفة الإيمان. «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا» .. وقيمة الإيمان أنه معرفة بالحقيقة الأولى التي لا تقوم في النفس البشرية معرفة صحيحة لشيء في هذا الوجود إلا عن طريقها. فمن طريق الإيمان باللّه ينشأ إدراك لحقيقة هذا الوجود، وأنه من صنع اللّه وبعد إدراك هذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يتعامل مع الكون وهو يعرف طبيعته كما يعرف قوانينه التي تحكمه. ومن ثم ينسق حركته هو مع حركة هذا الوجود الكبير، ولا ينحرف عن النواميس الكلية، فيسعد بهذا التناسق، ويمضي مع الوجود كله إلى بارئ الوجود في طاعة واستسلام وسلام. وهذه الصفة لازمة لكل إنسان، ولكنها ألزم ما تكون للجماعة التي تقود البشرية إلى بارئ الوجود.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015