ولا فرق بين أن يخاف الفوات، لضيق الوقت، أو لا يخافه؛ لأن الاجتهاد فرض عليه، فلا يسقط بضيق الوقت، كما أن فرض العاميِّ، وهو الاستفتاء والسؤال لا يسقط لضيق الوقت، وقال ابن سُرَيْج، فيما حكاه عنه صاحب "التلخيص" سماعاً: يجوز له التَّقْلِيد عنْد ضيق الوَقْت؛ للعمل به، ولا يجوز لِيُفْتِيَ به غيره، وقياس ذلك أَلاَّ نجوزه للقضاء بطريق الأولَى، وفي "الشامل" و"التهذيب" طرد قول ابن سُرَيْج في التقْليد للقضاء، وصور ضيق الوقْت فيه فيما إذا تحاكَمَ إلَيْه مسافران، والقافلة تَرْتَحِل، ومَنْ قال به، فينبغي أن يطرده في الفَتْوَى.

وهل على المجتهد تجديدُ الاجتهاد، إذا وقعت الحادثةُ مرَّةً أخرَى، أو سئل عنْها مرةً أخْرَى؟ أو يقتنع بما أدَّى إلَيْه اجتهادُه؟ الأوَّل فيه وجهان، كما ذكرنا في الاجتهاد في القبلة (?).

واعلم أن الَّذين يُقَال لهم أصحابُ الشافعيِّ وأصحابُ أبي حنيفة ومالك -رحمهم الله- ثلاثة أصناف العوامّ، وتقليدهم إياهم مفرَّع على جواز تقليد الميِّت، وقد عرفته، والبالغون درجة الاجتهاد، وقد ذكَرْنا أن المجتهد لا يُقلِّد المجتهد، وإنَّما يُنْسَبُ هؤلاء إلى الشافعيِّ -رضي الله عنه- وغيره؛ لأنهم يجرون على طريقته في الاجتهاد واستعمال الأدلة وترتيب بعضها على بعض، ويوافق اجتهادُهم اجتهادَ مُمَهِّدي تلْك الطرق، وإذا خالف أحياناً لم يُبَالَوا بالمخالفة، وهذا كما أن الشافعيَّ -رَضِيَ الله عَنْه- يقول في كلامه: وقال بعض أصحابنا: ويريد به مالكاً؛ لتوافقهما على اتباع السنة المأثورة عن رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-. والصِّنْف الثالث: المتوسِّطون بين الصِّنْفَيْن الأوَّلَيْن، وهم الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد في أصل الشرع ولكنهم وقفوا على أصول الإِمام الذي ينتسبون إليه في الأبواب، وتمكنوا من قياس ما لم يجدوه منصوصاً له على ما وجد، وهؤلاء مقلِّدون له تفريعاً على تقليد الميت.

وكذا من يأخذ بقولهم من العوامِّ تقليداً له، والمشهور: أنه لا يقلِّدهم في أنفسهم؛ لأنهم مقلِّدون، وقد نَجِدُ ما يشعر بخلافه؛ هذا أبو الفتح الهَرَوِيُّ وهو من أصحاب الإِمام - قدَّس الله روحه- يقول في الأُصُول: مذْهَبُ عامة أصحابنا أن العاميَّ لا مذهب لَهُ، فإن وَجَدَ مُجتهداً قلده، وإلا ووجد متبحراً في مذْهَب، فإنه يفتيه على مذهب نفسه، وإن كان العاميُّ لا يعتقد مذهبه، وهذا قولٌ: بأنه يقلد المتبحِّر في نفسه، ثم ههنا فروع:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015