لَقِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ عصِياً عَلَى الأَظْهَرِ، وَتَضِيقُ عَلَيْهِ الاسْتنَابَةُ إِذَا طَرَأَ العَضْبُ بَعْدَ الوُجُوبِ، فَإِنْ امْتَنَعَ فَفي إِجْبَارِ القَاضِي إِيَّاهُ عَلَى الاسْتِنَابَةِ وَجْهَان.
قال الرافعي: ذكر في "الوسيط": أن المسائل المذكورة إلى هذا الموضع كَلاَمٌ في أرْكَانِ الاستطاعة، ومن هاهنا إلى رأس النوع الثاني كلام في أحْكَامها، ولك أن تقول: الاستطاعة إحدى شرائط وجوب الحَجِّ كَمَا مَرَّ، وقد توجد الاستطاعة مسبوقة بسائر الشُّروطِ، وقد يوجد غيرها مسبوقاً بها فلم كانت هذه المسائل أحكام الاستطاعة دون غيرها؟ وبتقدير أن تكون أحكام الاستطاعة فهي أحكام مطلق الاستطاعة كما ستعرفه لا أحكام النَّوْع الأولِ مِنْهَا، وكان ذكرها بعد النَّوعَينِ أحسنَ والحَقُّ أنها ليست بأحكام الاستطاعة ولا سائر الشّروط، لكن مسائل هذا الفَصْلِ تتعلق بكيفية ثبوت الوُجوب بعد استجماع الشَّرَائِطِ وأنه مَتَى تَسْتَقِر؟
ومسائل الفَصْلِ الثَّانِي لا تَعَلَّق لها بالوجوب أيضاً، ومقصود الفَصْلِ أن الحَجَّ يجب على التَّرَاخِي وهو في العُمر كالصَّلاةِ بالإضافة إلى وَقْتِها.
وقال مالك وأحمد والمزنى -رحمهم الله-: إنه على الفَوْرِ، ويروى مثله عن أبي حنيفة -رحمه الله-.
لنا أن فريضة الحَجِّ نزلت سنة خَمْس من الهِجْرَةِ، وأخَّرَه النبي -صلى الله عليه وسلم- مِنْ غير مَانِعٍ، فإنه خرج إلى مَكَّة سَنةَ سَبْع لقضاء العُمْرَةِ وَلَمْ يَحُج، وفتح مكَّة سنة ثَمَانٍ، وبعث أبا بكر -رضي الله عنه- أميراً على الحج سنة تِسْعٍ، وحَجَّ هُوَ سنَةَ عَشْرٍ وَعَاشَ بعدها ثَمَانين يوماً ثم قُبِضَ إلى -رحمة الله تعالى-.
إذا تقرر ذلك فلمن وجب عليه الحجّ بنفسه أو غيره أن يُؤَخِّرَهُ عَنْ أَوَّلِ سنة الإِمْكَانِ. نعم، لو خشي العضب (?) وقد وجب عَلَيْهِ الحَجّ بنفسه ففي جواز التأخير وجهان:
أظهرهما: المنع، وإذا تَخَلَّف فمات قبل حَجِّ النَّاسِ تبين عَدَم الوُجُوب لتبين عدم الاستطاعة والامكان، وعن أَبِي يَحْيَى البلخِي أنه يَسْتَقِر عَلَيْهِ، وذكر في "المذهب": أن أبا إسحاق أخرج عليه نَصَّ الشافعي -رضي الله عنه- فرجع عنه، فلا يُعَلَّم قوله: (تبين عدم الاستطاعة) بالواو، وكذلك وإن مات بعد ما حَجَّ النَّاسُ استقرَّ الوجوبُ عليه ولَزِم الإحْجَاج مِنْ تَرِكَتِهِ.