والذهاب إلى الغاية في التضحية بالنفس، وقد كانت الأوبئة والمجاعة والخسارة في الأرواح كافية لأن تخلق اليأس في نفوس الجند المحاربين، ولكن يشبه أن يكون فتح صقلية عناداً مستمداً من قوة النفسية التي خرج بها أسد فاتحاً أكثر من كونه سعياً وراء غنيمة أو كسب. وكان مما يزيد المحاربين حرجاً انشغال زيادة الله بفتنة في الداخل وغزاة من الخارج. ولما اصبح في مقدور زيادة الله أن يمدهم بالجند فتحوا بلرم سنة 216هـ؟.
وكان فتح بلرم خطوة كبيرة أدت إلى استيلاء على سائر الجزيرة، فلم يعد المسلمون في حاجة إلى الانحياز في معسكرات أو قلاع صغيرة، وكانت بلرم مدينة بحرية جيدة الميناء، واتصالها بأفريقية سهل، ولذلك أصبح في استطاعتهم أن يعتمدوا على مدد دائم من أفريقية، وأن يحصلوا على المؤن باستمرار. ثم إن المنطقة حول بلرم خصبة يمكنها أن تزود عساكرهم بمؤن كثيرة (?) . ولذلك اتخذها المسلمون قاعدة لهم كما فعل الفينيقون من قبل. وأخذوا يزحفون منها على النواحي الأخرى من صقلية فإذا قضوا مهمتهم عادوا إليها. وأخذت السرايا تخرج كل يوم فتغير في انحاء الجزيرة، وترجع محملة بالرقيق والغنائم. وكان من أثر عمليات النهب هذه أن ضعفت روح المقاومة عند كثير من المدن والقلاع، فاستأمن كثير منها إلى المسلمين (?) وبثت السرايا الرعب حيثما اتجهت.
وعلى هذه الأعمال التمهيدية اعتمد الفتح في كثير من الأحيان، وكان حرق المزروعات خطة مقصودة لتوهين الناحية الاقتصادية ومن ثم إضعاف روح المقاومة عند السكان. إذ كانت المقاومة التي يلقاها المسلمون مزدوجة، فهم يواجهون القوات المحلية التي يقودها بطريق صقلية، ويواجهون الجيوش والأساطيل التي ترسلها حكومة القسطنطينية لتدافع عن الجزيرة. وكانت أعنف مراكز المقاومة ثباتاً هي قصريانة وسرقوسة وطبرمين ومنطقة دمنش، ولذلك كانت السرايا المبثوثة تحاول في يأس أن تعمل شيئاً. واستولى المسلمون على مسينة