هذا المعنَى كثيرةٌ جِدًّا، من ذلك ما قدَّمنا في سورةِ الأنعامِ من أن الكفارَ يومَ القيامةِ إذا رأوا القيامةَ وَعَايَنُوا الحقيقةَ تَمَنَّوْا أن يُرَدُّوا إلى الدنيا مرةً أخرى ليصدقوا الرسلَ ويؤمنوا بِاللَّهِ، وهذا الردُّ الذي تَمَنَّوْهُ عَلِمَ اللَّهُ أنه لا يكونُ، وقد صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لو كان كيف يكونُ، وذلك في قولِه: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)} [الأنعام: آية 27] هذا الردُّ الذي تَمَنَّوْهُ هو عَالِمٌ أنه لا يكونُ، وقد صرَّح بأنه عَالِمٌ أن لو كان كيفَ يكونُ حيثُ قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ في كتابِ اللَّهِ كقولِه: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّنْ ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)} [المؤمنون: آية 75] وقولِه تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [النساء: آية 66].
فهذه الآياتُ من كتابِ اللَّهِ دَلَّتْ على إحاطةِ عِلْمِ اللَّهِ (جلَّ وعلا) بِكُلِّ شيءٍ، حتى بالمعدوماتِ التي سَبَقَ في علمِه أنها لا توجدُ، فهو عَالِمٌ أن لو وُجِدَتْ كيف يكونُ، فهو عَالِمٌ بأن أبا لهب لن يُؤْمِنَ، وهو يعلمُ لو آمَنَ أبو لهبٍ أيكونُ إيمانُه تَامًّا أو نَاقِصًا، وهكذا. وهذا يدلُّ على أن المحيطَ بالعلمِ هو اللَّهُ (جلَّ وعلا) وحدَه، وَخَلْقُ اللَّهِ لا يعلمونَ من العلمِ إلا ما علَّمهم العليمُ الخبيرُ الأعظمُ كما دَلَّ عليه هذا القرآنُ في آياتٍ كثيرةٍ، وإيضاحُ ذلك أن أَعْلَمَ المخلوقينَ الملائكةُ والرسلُ - على جميعِهم صلواتُ اللَّهِ وسلامُه - فالملائكةُ لَمَّا قال لهم اللَّهُ: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا} [البقرة: الآيتان 31، 32] قولُهم: {لاَ عِلْمَ لَنَا} (لا) فيه، هي (لا) التي لنفيِ