الجوارح، أمنيته السلامة. والله (جل وعلا) -وله المثل الأعلى في السماوات والأرض- أعظم بطشاً وأشَدّ نكالاً، وأعظم اطلاعاً، وحِمَاه في أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، فالمسلمون إذا ذكروا هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم حاسبوا، ولم يفعلوا ما يخجلهم أمام رَبِّهِمْ (جل وعلا)؛ ولذا كثر في القرآن هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم بعد كل أوامر وكل نواهٍ، ومنه قوله هنا: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: الآية 42].
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} [الأنفال: الآية 43] قال بعض العلماء: (إذ) بدل من الظروف قَبْلَهُ. وقال بعضهم: منصوب بـ (اذكر) مقدراً (?).
ومعنى الآية الكريمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رَأَى على التحقيق فيما يرى النائم -ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وَحْيٌ لا شك فيها- أراه الله في نومه أن المشركين قليل جدّاً. وبعض العلماء أنكر معناها الواضح المتبادر للذّهن؛ لأنه لم يفهم الحقيقة. قالوا: كيف يُريهم قليلاً في مَنَامِهِ ورؤيا الأنبياء حَقّ، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم حوالي ألف، كيف يعلم أنهم قريبون من الألف ويَرَى في المنام خلاف ما هو يعلم مع أن رؤيا الأنبياء حق (?)؟ وغفل مَنْ قال هذا القول وإن قال به جماعة من أجِلاّء العلماء؛ لأن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، وتأويلها حق، كما قال يوسف: {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف: الآية 100] لأن معنى رؤياه هو ما سيأتي في قوله: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: الآية 44]. لأن الله قلّل كلاًّ من الطائفتين في عين الأخرى في اليقظة