فأجاب عن تلك المسائل، وقال: يعلم أمير المؤمنين أن الذين يقعون فينا لأنا نعمل بكتاب الله، ثم سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ثن بأحاديث الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم، وهذا حسد منهم، وطعن في الدين، وهذا علم لا يعرفه إلا الخبير البصير، والله ما تكلمت بمسألة حتى أذنت نفسي بالنصيحة، وليس بين الله وبين خلقه قرابة، وقد قالت الصحابة والتابعون: الأمر بالرأي لا بالكبر والسن، فمن وافق كان أقرب إلى الحق، وأوفق للقرآن والسنن، فالأولى أن يعمل بقولهم.
وقال أبو مطيع البلخي لأبي حنيفة: أرأيت لو رأيت رأياً، ورأى أبو بكر رأياً غيره، أتدع رأيك برأيه؟ قال: نعم.
فقلت: أرأيت لو رأيت رأياً، ورأى عمر رأياً، أتدع رأيك برأيه؟ قال: نعم.
قال: ثم سألته عن عثمان وعلي، فأجاب بمثل هذا، وقال: إني أدع رأيي عند رأي جميع الصحابة، إلا ثلاثة أنفس: أبو هريرة، وأنس بن مالك، وسمرة بن جُندب.
فهذا يدل على أنه يؤخر القياس عند الآثار.
ويدل على ذلك أيضاً، ما روى عن محمد بن النضر، وكان من كبار العلماء، وأنه قال: ما رأيت أحداً تمسك بالآثار أكثر من أبي حنيفة.
وعن أبي مُطيع البلخي، أن سفيان الثوري، ومقاتل بن حيان، وحماد بن سلمة، وغيرهم من فقهاء ذلك العصر، اجتمعوا وقالوا: إن النعمان هذا يدعي الفقه، وما عنده إلا القياس، فتعالوا حتى نناظره في ذلك، فإن قال: إنه قياس. قلنا له: عبدت الشمس بالمقاييس، وأول من قاس إبليس، لعنه الله، حيث قال: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) .
فناظرهم أبو حنيفة، يوم الجمعة في جامع الكوفة، وعرض عليهم مذهبه كما ذكرنا، فقالوا: إنك سيد العلماء، فاعف عنا؛ فإننا وقعنا فيك من غير تجربة ولا روية.
فقال لهم أبو حنيفة: غَفر الله لنا ولكم.
وروى أن أبا حنيفة كان يتكلم في مسألة من المسائل القياسية، وشخص من أهل المدينة يتسمع، فقال: ما هذه المُقايسة، دعوها فإن أول من قاس إبليس.
فأقبل عليه أبو حنيفة، فقال: يا هذا، وضعت الكلام في غير موضعه، إبليس رد على الله تعالى أمره، قال الله تعالى: (ةإذْ قُلْنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدوا إلا إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ) ، وقال تعالى: (فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُهم أجْمَعُون* إلا إبليسَ أبَى أنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدين) ، وقال: (إلا إبليسَ أبَى وَاسْتَكْبَر وَكَانَ مِنَ الكَافِرينَ) ، وقال: (أأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) فاستكبر ورد على الله أمره، وكل من رد على الله تعالى أمره فهو كافر، وهذا القياس الذي نحن فيه نطلب فيه اتباع أمر الله تعالى؛ لأنا نرده إلى أصل أمر الله تعالى في الكتاب، أو السنة، أو إجماع الصحابة والتابعين، فلا نخرج من أمر الله تعالى، ويكون العمل على الكتاب والسنة والإجماع، فاتبعنا في أمرنا إليها أمر الله تعالى، قال الله تعالى: (يَا أيُهَا الَّذِنَ آمَنُوا أطيعوا الله وأطِعوا الرَّسُولَ وَأولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) . إلى قوله: (وَالْيَومِ الآخِرِ) ، فنحن ندور حول الاتباع، فنعمل بأمر الله تعالى، وإبليس خالف أمر الله تعالى، ورده عليه، فكيف يستويان؟ فقال الرجل: غلطت يا أبا حنيفة، وتُبتُ إلى الله تعالى، فنور الله قلبك كما نورت قلبي.
ولا بأس بذكر بعض المسائل الشاهدة لما ذكرنا، والموضحة لما قررنا، على أنها لا تدخل تحت الحضر، والله الموفق للصواب: *مسألة، رجل رد عبداً آبقاً من مسيرة ثلاثة أيام.
قال أبو حنيفة: له الجعل أربعون درهماً. وكان القياس أن لا يجب، فترك الناس وأخذ من ذلك بالخبر الذي روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، في خبر طويل، أن رجلاً قدم بآبق من الفيوم، فقال القوم: لقد أصاب أجراً.
فقال ابن مسعود: وأصاب جعلاً.
وقال من خالفه: لا يجب الجعل. فترك الخبر وأخذ بالقياس.
*مسألة، ولو أن رجلاً حلق لحية رجلٍ، أو حاجبيه، فلم تنبت ثانياً.
قال أبو حنيفة: يجب على الحالق دية كاملة.
وقال من خالفه: لا يجب الدية على الكمال.
وكان القياس أن لا يجب الدية على الكمال، فترك القياس، وأخذ بالخبر المروي في حديث سعيد بن المُسيب، رحمه الله تعالى.
*مسألة، ولو أن رجلاً أوجب على نفسه أن ينحر ولده.
قال أبو حنيفة: يلزمه أن يذبح شاة.