وقال أبو سليمان الداراني: ورث داود الطائي من أمه داراً، فكان ينتقل في بيوت الدار، كلما خرب بيت من الدار انتقل منه إلى آخر ولم يعمره، حتى أتى على عامة بيوت الدار.
قال: وورث من أبيه دنانير، فكان يتقوتها حتى كُفن بآخرها.
وروى أن محمد بن قحطبة قدم الكوفة، فقال: أحتاج إلى مؤدب يؤدب أولادي، حافظ لكتاب الله، عالم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالآثار، والفقه، والنحو، والشعر، وأيام الناس.
فقيل له: ما يجمع هذه الأشياء إلا داود الطائي.
وكان محمد بن قحطبة ابن عم داود، فأرسل إليه يعرض ذلك عليه، ويُسنى له الأرزاق والفائدة، فأبى داود ذلك، فأرسل إليه بدرة عشرة آلاف درهم، وقال: استعن بها على دهرك. فردها.
فوجه إليه ببدرتين، مع غُلامين له مملوكين، وقال هما: إن قبل البدرتين فأنتما حُران.
فمضيا بهما إليه، فأبى أن يقبلهما، فقالا له: إن في قبولهما عِتقُ رقابنا.
فقال لهما: إني أخافُ أن يكون في قبولهما وهقُ رقبتي في النار، رداهما إليه، وقولا له: إن ردهما على من أخذتهما منه أولى من أن تعطيني أنا.
قال إسماعيل بن حسان: جئت إلى باب داود الطائي، فسمعته يخاطب نفسه، فظننت أن عنده أحداً، فأطلت القيام على الباب، ثم استأذنت فدخلت، فقال: ما بدا لك في الاستئذان؟ قلت: سمعتك تتكلم، فظننت أن عندك أحداً.
قال: لا، ولكن كنت أخاصم نفسي، اشتهت البارحة تمراً، فخرجت فاشتريت لها، فلما جئت به اشتهت جزراً، فأعطيت الله عهداً أن لا آكل تمراً ولا جزراً حتى ألقاه.
وقال عبد الله بن المبارك: قيل لداود، وقد تصدع حائط له: لو أمرت برمه؟ فقال داود: كانوا يكرهون فضول النظر.
وقال ابن أبي عدي: صام داود الطائي أربعين سنة ما علم به أهله، كان خزازاً، وكان يحمل غذاءه معه، ويتصدق به في الطريق، ويرجع إلى أهله يفطر عشاء، لا يعلمون أنه صائم.
وقيل: احتجم داود الطائي، فدفع إلى الحجام ديناراً، فقيل له: هذا إسراف.
فقال: لا عبادة لمن لا مروءة له.
وكان محارب بن دثار يقول: لو كان داود في الأمم الماضية لقص الله علينا من خبره.
وكان ابن المبارك، يقول: وهل الأمر إلا ما كان عليه داود.
وعن محمد بن الحسن، أنه قال: كنت آتي داود الطائي في بيته، فأسأله عن المسألة، فإن وقع في قلبه أنها مما أحتاج إليه لأمر ديني أجابني فيها، وإن وقع في قلبه أنها من مسائلنا هذه تبسم في وجهي، وقال: إن لنا شغلاً.
قال أبو نعيم: مات سنة ستين ومائة. طوقال الذهبي: سنة اثنتين وستين ومائة، وقيل: سنة ستين.
وحدث إسحاق بن منصور السلولي، قال: لما مات داود الطائي شيع جنازته الناس، فلما دفن قام ابن السماك على قبره، فقال: يا داود، كنت تسهر ليلك إذ الناس يناموت، فقال الناس جميعاً: صدقت. وكنت تربح إذ الناس يخسرون. فقال الناس: صدقت. وكنت تسلم إذا الناس يخوضون. فقال الناس: صدقت. حتى عدد فضائله كلها.
فلما فرغ قام أبو بكر النهشلي، فحمد الله، ثم قال: [يا رب] إن الناس قد قالوا ما عندهم مبلغ ما علموا، اللهم فاغفر له برحتك، وتكله إلى عمله.
قال بعض الصلحاء: رأيت داود الطائي في منامي، فقلت: أبا سليمان كيف رأيت خير الآخرة؟ قال: رأيت خيراً كثيراً.
قال، قلت: فماذا صرت إليه؟ قال: صرت إلى خير والحمد لله.
قال: فقلت: هل لك من علم يسفيان بن سعيد؟ فقد كان يحب الخير وأهله.
قال: فتبسم، ثم قال: رقاه الخير إلى درجة أهل الخير.
وذكر العيني، في " تاريخه " أن سبب علته، أنه مر بآية فيها ذكر النار، فكررها مراراً في ليلته، فأصبح مريضاً، فوجدوه قد مات ورأسه على لبنة.
ورآه في تلك الليلة رجل في المنام وهو مكشوف الرأس، فقال له: إلى أين؟ فقال: الآن خلصت من السجن.
فانتبه الرجل وقد ارتفع الصراخ بموته، رضي الله تعالى عنه.
ورأى بعضهم أيضاً في الليلة التي مات فيها داود ملائكة ونُورا، وقالوا: قد زخرفت الجنة لقدوم داود الطائي.
ومما قيل في داود من المدح قول بعضهم:
يَا قَوْمُ ما كان في أَحْوالِ دَاودِ ... ما عاشَ واللهِ أمْرٌ غيرُ محمودِ
داودُ مِنْ خَوْفِ رَبِّ العرشِ خالِقِهِ ... قد اقْتَنَى الدِّرْعَ لا مِنْ نَسْجِ داودِ