فقال الخادم: يا أبا الفضل، هذا الموت قد طرقك، أجب أمير المؤمنين. فقام إليه، فقبل قدميه، وأدخل عليه أن يدخل إلى أهله فيوصي إليهم، فقال: أما الدخول فلا سبيل إليه. فأوصى جعفر، وأعتق جماعة من مماليكه، وجاءت رسل الرشيد تستحث الخادم، فأخرجه إخراجاً عنيفاً يقوده حتى أتى إلى المنزل الذي كان فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيدٍ، وأعلم الرشيد بما فعل، فأمره بضرب عنقه، فجاء إلى جعفر، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن آتيه برأسك. فقال: يا أبا هاشم، لعل أمير المؤمنين سكران، فإذا صحا عاتبك على ذلك، فعاوده. فرجع إليه، فقال: يا أمير المؤمنين، لعلك مشغول. فقال: ويحك يا ماصَّ بظر أمه، إيتني برأسه. فكرر عليه جعفر المعاودة، فقال له: برئت من المهدي لئن لم تأتني برأسه لأبعثن من يأتيني برأسك ورأسه. فرجع إلى جعفر، وحز رأسه، وجاء به إلى الرشيد، فألقاه بين يديه.

وأرسل الرشيد من ليلته البرد في الاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها، ومن كان منهم بسبيل، فأخذوا كلهم عن آخرهم، فلم يفلت منهم أحد، وحبس يحيى بن خالد في منزله، وحُبس الفضل بن يحيى في منزل آخر، وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الأموال والموالي والحشم والخدم، واحتيط على أملاكهم.

وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته، ثم قطعت شقين، فنصب الرأس عند الجسر الأعلى، وشق الجثة عند الجسر الأسفل، وشقها الآخر عند الجسر الآخر، ثم أحرقت بعد ذلك.

ونودي في بغداد: أن لا أمان للبرامكة، ولا لمن والاهم إلا محمد بن يحيى بن خالد، فإنه استثناه من بين البرامكة، لنصيحة الخليفة، وشحنت السجون بالبرامكة، واستلبت أموالهم كلها.

وقد كان الرشيد في اليوم الذي قتل في آخره جعفر، هو وإياه راكبين في الصيد، وقد خلا به دون ولاة العهود، وطيبة في ذلك اليوم، ولما كان وقت المغرب، وودعه الرشيد، ضمه إليه، وقال: لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك، فاذهب إلى منزلك، فاشرب، واطرب لتكون على مثل حالي.

فقال: والله يا أمير المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا معك.

فانصرف عنه جعفر، فما هو إلا أن ذهب من الليل بعضه حتى أوقع به الباس والنكال، كما تقدم ذكره، وكان ذلك ليلة السبت، آخر ليلة من المحرم، وقيل: إنها كانت ليلة مستهل صفر، سنة سبع وثمانين، وكان عمر جعفر إذ ذاك سبعاً وثلاثين سنة.

ولما جاء الخبر إلى أبيه يحيى بقتله قال: قتل الله ابنه. ولما قيل له: خربت دارك. قال: خرب الله دوره.

ويقال: إنه لما نظر إلى داره وقد هتكت ستورها، واستبيحت قصورها، وانتهب ما فيها، قال: هكذا تقوم الساعة.

وقد كتب إليه بعض أصحابه يُعزيه فيما وقع، فكتب جواب التعزية: أنا بقضاء الله راض، وبالجزاء منه عالم، ولا يُؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما الله بظلام للعبيد، وما يغفر الله أكثر، ولله الحمد.

ولقد أكثر الشعراء المراثي في البرامكة، فمن ذلك قول الرقاشي، ويذكر أنه لأبي نواس:

الآن اسْتَرَحْنَا واسْتراحَتْ رِكابُنَا ... وأمْسَكَ مَن يَحْدِي ومن كان يَحْتَدِي

فقُلْ للمَطايا قد أَمِنْتَ مِن السُّرَى ... وطَيِّ الفَيَافِي فَدْفَداً بعدَ فَدْفَدِ

وقُلْ للمَنايا قد ظَفَرْتِ بجعفرٍ ... ولن تَظْفَرِي من بعده بمُسَوَّدِ

وقُلْ للعَطَايا بعدَ فَضْلٍ تَعَطَّلِي ... وقُلْ لِلرَّزايا كلَّ يومٍ تَجَدَّدِي

ودُونك سَيْفاً بَرْمَكِياً مُهَنَّدا ... أُصيبَ بسيفٍ هاشِميٍّ مُهَنَّدِ

وقال الرقاشي، وقد نظر إلى جعفر وهو مصلوب على جذعه:

أما واللهِ لولا خوف واشٍ ... وعَيْنٍ للخليفةِ لا تَنامُ

لَطُفْنا حَوْلَ جِذْعِكَ واسْتَلَمْنَا ... كما للناسِ بالحَجْرِ اسْتِلامُ

فما ابْصَرْتُ قَبْلَك يا ابنَ يحيى ... حُساماً فلَهُ السيفُ الحُسامُ

عَلى اللَّذاتِ والدنيا جميعاً ... لِدَوْلَةِ آلِ بَرْمَكٍ السَّلامُ

فاستدعى به الرشيد، وقال له: ويحك، ما حملك على ما فعلت؟ قال: تحركت نعمته بقلبي فلم أصبر.

قال: كم كان يُعطيك جعفر كل عام؟ قال: ألف دينار. فأمر له بألفي دينار.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015