وروى الزبير بن بكار، عن عمه مصعب بن الزبير، قال: لما قتل جعفر بن يحيى، وقفت امرأةٌ على حمار فاره، فقالت بلسان فصيح: والله لئن صرتَ اليوم آيةً، فلقد كنت في الكرم غايةً، ثم أنشأت تقول:

ولمَّا رأيتُ السيفَ خالَطَ جعفراً ... ونادَى مُنادٍ للخليفةِ في يحيى

بَكَيْتُ على الدنيا وأيْقَنْتُ أنَّما ... قُصارى الفتى يوماً مُفارَقةُ الدُنيا

وما هي إلا دولةٌ بعدَ دولةٍ ... تُخَوِّلُ ذا نَعْمى وتَعْقِبُ ذا بَلْوَى

إذا أَنْزَلَتْ هذا منازِلَ رِفْعَةٍ ... مِن المُلْكِ حطَّتْ ذا إلى الغايةِ القُصْوى

قال: ثم حركت حمارها، فكأنها كانت ريحاً، لا أثر لها، ولا يُعرف أين ذهبت.

وقيل: إن الأبيات هذه للعباس بن الأحنف.

وروى الخطيبُ أن أبا يزيد الرياحي، قال: كنت قائماً عند خشبة جعفر بن يحيى البرمكي أتفكر في زوال ملكه، وحاله التي صار إليها، إذا أقبلت امرأة راكبة لها رواءٌ وهيبة، فوقفت على جعفر، فبكت وأحرقت، وتكلمت فأبلغت، فقالت: أما والله لئن أصبحت للناس آية، لقد بلغت فيهم الغاية، ولئن زال ملكك، وخانك دهرك، ولم يطل به عُمرك، لقد كنت المغبوط حالاً، الناعم بالاً، يحسن بك الملك، وينفس بك الهلك، " ولئن صرت " إلى حالتك هذه، فلقد كنت الملك بحقه، في جلالته ونطقه، فاستعظم الناس فقدك، إذ لم يستخلفوا ملكاً بعدك، فنسأل الله الصبر على عظم المصيبة، وجليل الرزية، التي لا تستعاض بغيرك، والسلام عليك وداع غير قال، ولا ناس لذكرك. ثم أنشأت تقول:

العَيْشُ بعدَك مُرٌ غيرُ مَحْبُوبِ ... ومُدْ صُلِبْتَ وَمَقْتاً كلَّ مَصْلُوبِ

أَرْجُو لك اللهَ ذا الإحسانِ إن له ... فَضْلاً علينا وعَفْواً غيرَ مَحْسُوبِ

ثم سكتت ساعة وتأملته، ثم أنشأت تقول:

عليكَ من الأحِبَةِ كلَّ يومٍ ... سلامُ الله ما ذُكرَ السَّلامُ

لَئِنْ أَمْسَى صَدَاكَ بِرَاْيِ عَيْنٍ ... على خُشُبٍ حَباكَ بها الإمامُ

فمِن مُلْكٍ إلى مُلْكٍ بِرَغْمٍ ... من الأملاكِ أسْلَمَكَ الهُمَامُ

وروى الخطيب، أن أبا قابوس النصراني، قال: دخلت على جعفر بن يحيى البرمكي في يوم، فأصابني البرد، فقال: يا غلام، اطرح عليه كساء من أكسية النصارى، فطرح عليه كساء خز قيمته ألف دينار، قال: فانصرفت إلى منزلي، فأردت أن ألبسه في يوم عيد، فلم أصب له في منزلي ثوباً يشاكله، فقالت لي بنية لي: اكتب إلى الذي وهبه لك حتى يرسل إليك بما يشاكله من الثياب، فكتبت إليه هذه الأبيات:

أبا الفضل لو أَبْصَرْتَنا يومَ عِيدِنَا ... رأيتَ مباهاةً لنا في الكنائسِ

فَلَوْ كان ذاك المِطْرَفُ الخَزُّجُبَّةً ... لبَاهَيْتُ أَصْحابِي به في المجالسِ

فلا بُدَّ لي من جُبَّةٍ من جبابِكُمْ ... ومن طَيْلَسانٍ من جِيادِ الطيالِسِ

ومن ثَوْبِ قُوهِيٍّ وثوبِ عَلائِمٍ ... ولا بَاْسَ إن أَتْبَعْتَ ذاك بخامسِ

إذا تمَّتِ الأَثْوابُ في العِيدِ خَمْسَةً ... كَفَتْكَ فلم تَحْتَجْ إلى لبس سادسِ

لَعَمْرُك ما أفرَطْتُ فيما سألته ... وما كنتُ لو لأَفْرَطْتُ فيه بآيسِ

وذاك لأن الشِّعْرَ يَزْدادُ جِدَّةً ... إذا ما ألْبِلَى أَبْلَى جَدِيدَ المَلابِسِ

قال: فبعث إليه حين قرأش عره بتخوت خمسة، من كل نوع تختاً، قال: فوالله ما انقضت الأيامُ حتى قتل جعفر وصلب، فرأينا أبا قابوس قائماً تحت جذعه يزمزم، فأخذه صاحبُ الخبر، فأدخله على الرشيد، فقال له: ما كنت قائلاً تحت جذع جعفر؟ قال: فقال أبو قابوس: أيُنجيني منك الصدق؟ قال: نعم.

قال: ترحمت والله عليه، وقلت في ذلك:

أمينَ الله هَب فضلَ بنَ يحيى ... لِنَفْسِكَ أيُّها المَلِكُ الهُمامُ

وما طَلَبي إليك العَفْوَ عنه ... وقد قَعَدَ الوُشاةُ به وقامُوا

أرى سببَ الرِّضا فيه قَوِيًّا ... علَى اللهِ الزِّيادةُ والتَّمامُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015