وذكر قاضي القضاة ابن خلكان في " الوفيات " صفة أخرى في مقتل جعفر، وذلك أنه لما زوج الرشيد جعفراً من العباسة أخته، أحبته حباً شديداً، فراودته عن نفسه، فامتنع أشد الامتناع من خشية أمير المؤمنين، فاحتالت عليه، وكانت أمه تهدي إليه في كل ليلة جمعةٍ جارية حسناء بكراً، فقالت لأمه: ادخليني عليه في صفة جارية من تلك الجواري. فهابت من ذلك، فتهددتها حتى فعلت، فلما دخلت عليه، وكان لا يتحقق وجهاا من مهابة الرشيد، فواقعها، فقالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ فقال: ومن أنت؟ فقالت: أنا العباسة. وحملت منه تلك الليلة، فدخل على أمه، فقال لها: بعتيني والله برخيص.
ثم أن والد يحيى بن خالد جعل يضيق على عيال الرشيد في النفقة، حتى شكته زبيدة إلى الرشيد مرات، ثم أفشت له سر العباسة، فاستشاط غضباً.
ولما أخبرته أن الولد قد أرسلت به إلى مكة، حج عامه ذلك، حتى يتحقق الأمر، ويقال: إن بعض الجواري نمت عليها إلى الرشيد، فأخبرته بما وقع من الأمر، وأن الولد بمكة، وعنده جوار ومعه أموال، وحلي كثير، فلم يصدق حتى حج في السنة الخالية، فكشف عن الحال، فإذا هو كما ذكرت الجارية.
وقد حج في هذه السنة يحيى بن خالد الوزير، وقد استشعر الغضب من الرشيد عليه، فجعل يدعو عند الكعبة: اللهم إن كان يرضيك عني سلب مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك بي، وأبقِ عليهم منهم الفضل. ثم خرج، فلما كان عند باب المسجد رجع، فقال: اللهم والفضل معهم، فإني راضٍ برضاك عني، ولا تستثن منهم أحداً.
وقيل: إن من المُحرضات على قتل البرمكة قول بعض الشعراء يُخاطب الرشيد:
قُلْ لأَمِينِ اللهِ في أَرْضِهِ ... ومن إليه الحَلُّ والعَقْدُ
إنَّ ابن يحيى جعفراً قد غدَا ... مِثْلَكَ ما بينكما حَدُّ
أَمْرُكَ مَرْدُودٌ إلى أَمْرِهِ ... وأمرُهُ ليس له رَدُّ
وقد بَنَى الدَّارَ التي ما بنى ال ... فُرْسُ لها مِثْلاً ولا الهِنْدُ
الدُرُّ والياقُوتُ حَصْباؤُهَا ... وتُرْبُها العَنْبَرُ والنَّدُ
وجَدُّك المنصورُ لو حَلَّها ... لَمَا أَطباهُ قصرهُ الخُلْدُ
ساواكَ في المُلْكِ فَأَبْوابُهُ ... مأْهُولةٌ يَعْمُرُها الوَفْدُ
وما يُساوي العبدُ أَرْبابَهُ ... إلا إذا ما بَطَرَ العبدُ
ونحنُ نَخْشَى أنه وارثٌ ... مُلْكَكَ إن غَيَّبَك اللَحْدُ
وروى ابن الجوزي أن الرشيد سُئل عن السبب الذي من أجله أهلك البرامكة، فقال: لو أن قميصي هذا يعلم لأحرقته.
قال ابن كثير: فلما قفل الرشيد من الحج صار إلى الحيرة، ثم ركب في السفن إلى العمر، من أرض الأنبار، فلما كانت ليلة السبت، سلخ المحرم من هذه السنة، أعني سنة سبع وثمانين، أرسل مسرور الخادم، ومعه حماد بن سالم أبو عصمة، في جماعة من الجند، فأطافوا بجعفر بن يحيى ليلاً، فدخل عليه مسرور الخادم، وعنده بختيشوع المتطبب، وأبو ركازٍ الأعمى المغني يُغنيه:
فلا تَبْعُدْ فكلُّ فتىً سيأتي ... عليه الموتُ يطرُق أو يُغادِي
وكلُّ ذَخِيرةٍ لا بُدَّ يوماً ... وإن بقيتْ تَصِيرُ إلى نَفَاذِ
فو فُودِيتَ من حَدَثِ المَنَايا ... فَدَيْتُك بالطَّريفِ وبالتِّلادِ
وقيل: كان يُعنيه قول بعضهم:
ما يُريدُ الناسُ مِنَّا ... ما ينامُ الناسُ عَنَّا
إنَّما هَمُّهُمُ أنْ ... يُظْهِرُوا ما قد دَفَنَّا
ولكن المشهور هو الأول.