وقد كان حلف لها أن لا يأكل لها ثمناً، فتغرغرت عين المولى، وقال: اشهدوا أنها حرة لوجه الله تعالى، وأني قد تزوجتها، وأمهرتها داري.
فقال لي جعفر: انهض بنا.
فقال: فدعوت الحمالين ليحملوا المال، قال: فقال جعفر: لا والله، لايصحبنا منه درهم.
قال: ثم أقبل على مولاها، فقال: هو لك مُباركاً لك فيه، أنفقه عليك وعليها. قال: وقُمنا وخرجنا.
وروى أنه لما حج اجتاز في طريقه بالعقيق، وكانت سنة مجدبة، فاعتضته امرأة من بني كلاب، وأنشدته:
إني مَرَرْتُ على العقيق وأهله ... يشكون مِن مطرِ الربيعِ نُزُورَا
ما ضَرَّهم إذا كان جعفر جارَهم ... أنْ لا يكون رَبِيعهم مَمْطوراً
فأجزل لها العطاء.
ذكر مقتل جعفر، وإيقاع الرشيد به
وبأهل بيته
وذكر السبب في ذلك على وجه الاختصار، فإن فيه عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ، وتنبيهاً لمن هو غافل عن غدر الدنيا لأرببابها، وإساءتها بعد الإحسان لأصحابها، وقد نقلت ذلك من التواريخ المعتمدة، كتاريخ الخطيب، وتاريخ ابن كثير، وغيرهما.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة، فيها كان مقتل الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، ودمار ديارهم، واندثار آثارهم، وذهاب صغترهم وكبارهم، وقد اختلف في سب ذلك على أقوال، ذكرها أبو جعفر بن جرير، وغيره من علماء التاريخ، فمما قيل: إن الرشيد قد سلم يحيى بن عبد الله بن حسن إلى جعفر البرمكي، فسجنه عنده، قال: فما زال يحيى يترفق له حتى أطلقه جعفر، فنم الفضلُ بن الربيع على جعفر في ذلك، فقال له الرشيد: ويلك، لا تدخل بيني وبين جعفر، فلعله قد أطلقه على أمري وأنا لا أشعر. ثم سأل الرشيد جعفر عن ذلك فصدقه الحال، فتغيظ عليه الرشيد، وحلف ليقتلنه، وكرة البرامكة، ومقتهم، وقلاهم، بعد ما كانوا أحظى الناس عنده، وأحبهم إليه، وكانت أم جعفر والفضل أمه من الرضاعة، وجعلهم من الرفعة في الدنيا وكثرة المال، بسبب ذلك في شيءٍ كثير لم يحصل لمن قبلهم من الوزراء، ولا لمن بعدهم من الأكابر والرؤساء، بحيث أن جعفراً بنى داراً، وغرم عليها عشرين ألف ألف درهم، وكان ذلك " من جملة ما كبر عليه بسببه ".
ويقال: إن الرشيد كان لا يمر ببلد ولا إقليم فيسأل عن قرية أو مزرعة أو بستان، إلا قيل: هذا لجعفر.
وقد قيل: إن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد، وإظهار الزندقة، ويؤيد ذلك ما روى أن الرشيد أتى بأنس بن أبي شيخ، وكان يُتهم بالزندقة، وكان مصاحباً لجعفر، وذلك ليلة قتل، فدار بينه وبينه كلام، فأخرج سيفاً من تحت فراشه، وأمر بضرب عنقه به، وجعل يتمثل ببيت قيل في أنس، قبل ذلك، وهو
تَلَمَّظَ السيفُ مِنْ شوقٍ إلى أَنَسٍ ... فالسيفُ يَلْحَظُ والأَقْدارُ تَنْتَظِرُ
فضرب عنقه، فسبق السيف الدم، فقال الرشيد: رحم الله عبد الله بن مصعب. فقال الناس: إن السيف كان سيف الزبير بن العوام، رضي الله تعالى عنه.
وقيل: إنه بسبب العباسة أخته، فإن جعفراً كان يدخل على الرشيد بغير إذن، حتى إنه كان ربما دخل عليه وهو في الفراش مع حظاياه، وهذه وجاهة عظيمة، ومنزلة عالية، وكان من أحظى العشراء، على الشراب، فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر ملكه المسكر، " وكان المُخلف ". وكان أحب أهله إليه أخته العباسة بنت المهدي، وكان يحضرها معه، وجعفر البرمكي حاضر أيضاً، فزوجه بها، ليحل له النظر إليها، واشترط عليه أن لا يطأها، فكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب، فربما واقعها جعفر، فاتفق حملها منه، فولدت ولداً بعثته مع بعض جواريها إلى مكة، وكان يُربى هناك.