من طبقة الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري، رحمهما الله تعالى.
قال الخطيب: كان من علو القدر، ونفاذ الأمر، وعظم المحل، وجلالة المنزلة، عند هارون الرشيد، بحالةٍ انفرد بها، ولم يشارك فيها، وكان سمح الأخلاق، طلق الوجه، ظاهر البشر، فأما جوده وعطاؤه فأشهر من أن يذكر، وأبين من أن يظهر، وكان أيضاً من ذوي الفصاحة، المذكورة باللسن والبلاغة، ويقال: إنه وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، نظر في جميعها، فلم يخرج شيء منها عن موجب الفقه.
قال: وكان أبوه يحيى بن خالد قد ضمه إلى أبي يوسف القاضي، حتى علمه وفقهه.
وقال ثُمامة بن أشرس: ما رأيت رجلاً أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون.
وحكى العباس بن الفضل، قال: اعتذر رجل إلى جعفر بن يحيى البرمكي، فقال له جعفر: قد أغناك الله بالعُذر [منا] عن الاعتذار إلينا، وأغنانا بالمودة لك عن سوء الظن بك.
وحيث كان يروى عنه في الكرم، وإسداء النعم، وإكرامه جلسائه، والإحسان إلى أوليائه، وتحقيق ظن آمليه، وتفريج كربة سائليه، ما تضيق عنه الدفاتر، وتعجز عن ضبطه الأقلام والمحابر، وتغنى به الركبان، وتتجمل بذكره مجالس الأعيان، فلا بأس أن نذكر منها طرفاً يسيراً يكون لأهل الكرم به قدوة، ولضعيف الهمة باعثاً على الجميل وموجداً له نحوه، وليعلم أن المرء لا يبقى له بعد موته إلا الذكر الجميل، والثناء الحسن الجزيل.
فمن ذلك ما روى ابن عساكر، عن المهذب صاحب العباس بن محمد، صاحب قطيعة العباس والعباسية، أنه أصابته ضائقة، وألح عليه المطالبون، وعنده سفطٌ فيه جوهر، مُشتراة عليه ألف درهم، فحمله إلى جعفر ليبيعه منه، فاشتراه بثمنه، ووزن له ألف ألف، وقبض منه السفط، وأجلسه عنده في تلك الليلة، فلما رجع إلى أهله إذا السفط قد بلغه إلى منزله، فلما أصبح غداً إليه ليتشكر له، فوجده مع أخيه الفضل على باب الرشيد، يستأذن عليه، فقال له جعفر: إني قد ذكرت أمرك للفضل، وقد أمر لك بألف ألف، وما أظنها إلا سبقتك إلى أهلك، وسأفاوض فيك أمير المؤمنين. فلما دخل ذكر أمره له، وما لحقه من الديون، فأمر له بثلاثمائة ألف دينار.
وروى الخطيب أن جعفراً كان ليلة في سمره وعنده أبو علقمة الثقفي صاحب الغريب، فأقبلت خنفساة إلى علقمة، فقال: أليس يقال: إن الخنفساة إذا أقبلت إلى رجل أصاب خيراً؟ قالوا: بلى. فقال جعفر: يا غلام أعطه ألف دينار. ثم نحوها فعادت إليه، فقال: يا غلام، أعطه ألف دينار. فأعطاه.
وروى أيضاً أن جعفراً حج مرة مع الرشيد، فلما كانوا بالمدينة، قال لإبراهيم الموصلي: أنظر لي جارية أشتريها، ولا تبق غايةً في حذاقتها بالغناء والضرب والكمال، والطرف، والأدب، وجنبني قولهم: صفراء.
قال إبراهيم: فوصفتها على يد من يعرف، فأرشدت إلى جارية لرجل، فدخلت عليه، فرأيت رسوم النعمة عنده، فأخرجها إلي، فلم أر أجمل منها ولا أصبح ولا آدب، قال: ثم تغنت لي أصواتاً فأجادتها، قال: فقلت لصاحبها: قل ما شئت، قال: أقول لك قولاً لا أنقص منه درهماً، قلت: قل. قال: أربعين ألف دينار. قال: قلت قد أخذتها، واشترطت عليك نظرةً. قال: ذاك لك.
قال: فأتيت جعفر بن يحيى، فقلت: قد أصبت حاجتك على غاية الكمال والظرف والأدب والجمال ونقاء اللون وجودة الضرب والغناء، وقد اشترطت نظرة فاحمل المال، ومر بنا.
قال: فحملنا المال على حمالين، وجاء جعفر مُستخفياً، فدخلنا على الرجل فأخرجها، فلما رآها جعفر أعجب بها، وعرف أن قد صدقته، ثم غنته فازداد بها عجباً، فقال لي: اقطع أمرها. فقلت لمولاها: هذا المال قد نقدناه ووزناه، فإن قنعت وإلا فوجه إلى من شئت لينتقده. فقال: لا، بل أقنع بما قلتم.
قال: فقالت الجارية: يا مولاي، في أي شيء أنت؟
فقال: قد عرفت ما كنا فيه من النعمة، وما كنت فيه من انبساط اليد، وقد انقبضت عن ذلك لتغير الزمان علينا، فقدرت أن تصيري إلى هذا الملك، فتنبسطي في شهواتك وإرادتك.
فقالت الجارية: والله يا مولاي لو ملكت منك ما ملكته مني ما بعتك بالدنيا وما فيها، وبعد فاذكر العهد.