قال أبو عمر الكندي: قال محمد بن الربيع الجيزي: ولي بكار قضاء مصر من قبل المتوكل، فدخلها يوم الجمعة، لثمان ليالٍ خلون من جمادى الآخرة، سنة ست وأربعين ومائتين.
ويقال: إنه لقي وهو قاصد مصر محمد بن أبي الليث بالجفار؛ وهو الرمل الذي بين غزة والعريش، راجعاً إلى العراق مصروفاً، فقال له بكار: أنا رجل غريب، وأنت قد عرفت البلد، فدُلني على من أشاوره وأسكن إليه.
فقال له: عليك برجلين، أحدهما عاقل وهو يونس بن عبد الأعلى، فإنني سمعت في سفك دمه وقدر علي فحقن دمي، والآخر موسى بن عبد الرحمن بن القاسم؛ فإنه زاهد.
قال: فصهما لي.
فوصفهما له، فلما دخل بكار مصر، ودخل الناس إليه، رأى شيخاً بالوصف الذي وصف له به يونس بن عبد الأعلى، فظن أنه هو، فأكرمه، فبينا هو في الحديث معه، إذ قيل: يونس بن عبد الأعلى. فأعرض عن الرجل، وتلقى يونس فأكرمه، وأتاه موسى بن عبد الرحمن، فأعظمه، واستشاره، وأخذ برأيه.
واتفق أنه قال لموسى، بعد ما تخصص به: يا أبا هارون، من أين المعيشة؟ قال: من وقف أبي.
قال: يكفيك؟ قال: قد تكفيت به، وقد سأل القاضي، فأسأل؟ قال: سل.
قال: هل ركب القاضي دين بالبصرة لم يجد له وفاء حتى تولى القضاء؟ قال: لا.
قال: فرزق ولداً أحوجه إلى ذلك؟ قال: لا.
قال: فعيال؟ قال: ما نكحت قط.
قال: فأجبره السلطان وخوفه؟ قال: لا.
قال: فضربت آباط الإبل من البصرة إلى مصر لغير حاجة!! لله على أن دخلت عليك أبداً.
قال: أقلني.
قال: أنت ابتدأت.
ثم انصرف عنه، فلم يعد إليه.
قال ابن حجر: وقد استبعد صاحبنا جمال الدين صحة هذه الحكاية، من جهة أن ابن أبي الليث كان حينئذ محبوساً بالعراق، ولأن خروجه من مصر كان في سنة إحدى وأربعين، قبل مجيء بكار بخمس سنين.
وأجرى المتوكل على بكار في الشهر مائة وثمانين وستين ديناراً.
وكان بكار عافرفاً بالفقه، كثير البكار، والتلاوة، وكان إذا فرغ من الحكم خلا بنفسه، وعرض من تقدمن إليه، وما حكم به، على نفسه، وكان يكثر الوعظ للخصوم، ولا سيما عند اليمين، وكان يحاسب أمناءه في كل وقت، ويسأل عن الشهود.
ودخل عليه أبو إبراهيم المزني، في شهادة، ولم يكن رآه قبلها، لاشتغال المُزني بنفسه، وإنما اضطر إلى أداء الشهادة، فلما أداها، قال له: تسم.
فقال: إسماعيل بن يحيى المُزني.
قال: صاحب الشافعي؟ قال: نعم.
فاستدعى من شهد عنده أنه هو، فقبل شهادته.
وقال الطحاوي: ما أدري كم كان يجيء أحمد بن طولون إلى بكار، وهو على الحديث، فما يشعر به بكار إلا وهو جالس إلى جنبه، فيقول: ما هذا أيها الأمير، هلا تركتني حتى أقضي حقك، أحسن الله مجازاتك.
وقال ابو حاتم ابن أخي بكار: قدم على بكار رجل من أهل البصرة، ذكر أنه كان رفيقه في المكتب، فأكرمه جداً، ثم احتاج إلى شهادة، فشهد عند بكار مع رجل مصري، فتوقف عن الحكم، فظن أهل مصر أن توقفه لأجل المصري، فسئل في خلوة عن ذلك، فقال: المصري على عدالته، ولكن السبب البصري، وذكر منه أمراً رآه في الصغر، وقال: لا تطيبُ نفسي إذا ذكرت ذلك أن أقبل شهادته.
وقيل: إنه ذكر أنه أكل معه أرزاً في سمن، فنفذ العسل الذي من ناحية بكار، ففتح من جهة صاحبه حتى جرى إليه، فقال له (أخترقتها لتغرق أهلها) .
فقال: له بكار: أتهزأ بالقرآن في مثل هذا! فبقيت في نفسه عليه.
وكان بكار في غاية العفاف، وسلامة الصدر، اتفق أنه دخل عليه بعض أمنائه، وهومخرق الثياب، فقال: بعثتني أحفظ تركة فلان، فصنع بي جاره هذا.
فقال: أحضروه.
فأحضره الأعوان، فقال له بكار: أنت صنعت هذا بأميني.
قال: نعم.
فقال: خُذُوه.
فأخذه الأعوان، فسقط ميتاً، فدهش بكار، فقال له أمناء القاضي: هذا عمله اليوم، مات مرتين.
فاستوى الرجل جالساً، فقال: كذبوا والله، ما مت إلا الساعة، ورقد.
فجعل بكار يرش عليه ماء الورد، ويشمه الكافور، ويرفق به، ويعده، إلى أن قام فصرفه، وأقبل على أعوانه، فقال: هددتموه، وجررتموه، فلو وافق أجله!.
وكان ابن طولون إذا حضر جنازة لا يُصلي عليها غيره، إلا أن يكون بكار حاضراً.
ويقال: إن بكاراً كان عثمانياً، فتظلم إليه رجل، فجعل يُنادي: ذهب الإسلام.
فقال له بكار: يا هذا، نحر عثمان فما ذهب الإسلام، يذهب بسببك!