فلما وقع بينه وبين ابن طولون بكته بها ابن طباطبا النقيب.

وقال الطحاوي: جاء رجل إلى أبي محمد بن العباس التل الفقيه، فقال له: في يدي دار لرجل غائب، وإني أريد إخراجها من يدي.

فقال له: صر إلى القاضي، فسلمها له.

فمضى، وعاد، فقال: قلت له، فقال: أخرجوه. فقال له التل: صدق، عد إليه، وسم له اسم صاحبها، وأنه غائب. ففعل، فقال: أخرجوه. فقال له التل: صدق، عد إليه، وأذكر له موضعها وحدودها. ففعل، فقال: أخرجوه، فقال له التل: صدق، عد إليه، واذكر له إنك لا ملك لك عليها، ولا على شيء منها بسبب من الأسباب. فقال: أخرجوه. فقال التل: صدق، عد إليه، وقل له: وأنا عاجزٌ عن حفظها. فمضى، ثم عاد، فقال: عرفته ذلك، فقال: اكتبوا عليه بما ذكرنا كتاباً، وأعطوه نسخة، واقبضوا الدار، وأقيموا لها أميناً، حتى يحضر صاحبها. فقال له التل: ابتليت بقاضٍ فقيه.

قال ابن حجر: والتل هذا يسمى محمد بن العباس، بصرى سكن مصر، ومات في ذي الحجة، سنة اثنتين وسبعين ومائتين.

وعن بكار أنه قال يوماً في مجلسه: ما حللت سراويلي على حلالٍ قط.

فقال له رجل: ولا حرام؟ فقال: والحرام يذكر!! وكان بكار يخالف أصحابه الحنفية في تحليل قليل النبيذ، ويذهب إلى تحريمه، وكان يعاتب صاحبه أبا جعفر التل على الشرب.

قال ابن زولاق: كان لبكار اتساعٌ في العلم والمُناظرة، ولما رأى " مختصر المزني " وما فيه من الرد على أبي حنيفة، شرع هو في الرد على الشافعي، فقال لشاهدين من شهوده: اذهبا إلى المزني، فقولا له: سمعت الشافعي يقول ما في هذا الكتاب؟

فمضيا وسمعا " المختصر " كله من المزني، وسألاه: أسمعت الشافعي يقول هذا؟ قال: نعم.

فعادا إلى بكار، فأخبراه بذلك، فقال: الآن استقام لنا أن نقول: قال الشافعي. ثم صنف الرد المذكور.

ومن قضايا بكار، أن رجلاً خاصم آخر شافعياً في شفعة جوار، فطالبه عند بكار، فأنكر، فطاوله بكار حتى عرف أنه من أهل العلم، فقال بكار للمدعي: ألك بينة؟ قال: لا.

قال لخصمه: أتحلف؟ قال: نعم.

فحلفه، فحلف، فزاد في آخر اليمين: إنه ما يستحق عليك هذه الشفعة على قول من يعتقد شفعة الجوار، فامتنع، فقال له بكار: قُم فأعطه شُفعته.

فأخبر الرجل المزني بقضيته، فقال: صادفت قاضياً فقيهاً.

ولما غضب أحمد بن طولون على بكار سجنه، وكان السبب في ذلك أنه لما خرج إلى قتال الموفق بسبب المعتمد، حين ضيق وهو ولي العهد على أخيه المعتمد، وهو الخليفة حينئذ، حتى إنه لم يبق للمعتمد إلا الإسم، ضاق المعتمد بذلك، فكاتب أمراء الأطراف، فوافقه أحمد بن طولون، وواعده أن يحضر إليه، ويحمله معه إلى مصر، ويجعلها دار الخلافة، ويذب عنه من يُخالفه في ذلك، فتهيأ المعتمد لذلك، واهتم أحمد بأمره، فبلغ الموفق، فنصب لأحمد الحرب، وصرح بعزله ولعنه، فصرح أحمد بخلع الموفق من ولاية العهد، وأمر بلعنه، وخرج أحمد بالعسكر من مصر، واستصحب بكاراً.

فلما كان بدمشق، جاء كتاب المعتمد إلى ابن طولون بخلع الموفق من ولايته العهد، ففعل، وأجاب القضاة كلهم إلى خلعه وسماه بكار الناكث، وأشهد على نفسه هو وسائر قُضاة الشام والثغور.

وطلب منهم أحمد أن يلعنوا الموفق، فامتنع بكار، فألح عليه، فأصر على الامتناع حتى أغضبه.

وكان قبل ذلك مكرماً معظماً عنده، عارفاً بحقه، وكان يجيزه في كل سنة بألف دينار، فلما غضب عليه أرسل إليه: أين جوائزي؟ فقال: على حالها.

فأحضرها من منزله بخواتيمها ستة عشر كيساً، فقبضها أحمد منه.

ثم لم يزل عليه في لعن الموفق، وهو يمتنع من إجابته، إلى أن قال يوماً لأحمد: (ألا لعنةُ الله على الظالمين) .

فقال علي بن الحسين بن طباطبا نقيبُ الطالبيين بمصر: أيها الأمير، إنه عناك.

فغضب أحمد، وأمر بتمزيق ثيابه، وجروه برجله وليس عليه إلا سراويل وخفان وقلنسوة، وهو مسلوب الثياب، فضربه رجل بعود حديد على رجله الممدودة، فقال: أوه. وضمها، ثم حمل من بين يديه إلى السجن، ثم أقامه للناس يطالبونه بمظالم يدعونها عليه، فكان يحضر في مجلس المظالم بين يدي أحمد قائماً.

وكان الطحاوي يقول: ما تعرض له أحد فأفلح بعد ذلك، لقد تعرض له غلام يقال له: عامر بن محمد بن نجيح، وكان في حجره، فرآه بكار في مجلس المظالم، فقال له: يا عامر ما تصنع ها هنا؟ قال: أتلفت على مالي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015