وقدم دمشق، في سنة عشرين، وناظر، وظهرت فضائله. قاله ابن كثير.
ودخل مصر، ثم رحل فدخل بغداد، وولي قضاءها.
ثم قدم دمشق ثانياً في شهر رجب، سنة سبع وأربعين، وولي بها دار الحديث الظاهرية بعد وفاة الذهبي، وتدريس الكنجية، ثم نزل عنهما.
ولما دخل مصر، المرة الثانية، أقبل عليه صرغتمش، وعظمه، وجعله شيخ المدرسة التي بناها، واختار لحضوره الدرس طالعاً، وذلك حين كان القمر في السنبلة، والزهرة في الأوج وكان تثليث المشتري والقمر، فدرس ذلك اليوم، وأقبل عليه صرغتمش إقبالاً عظيماً، فقدر أنه لم يعش بعد ذلك سوى سنة ونصف، بل أقل من ذلك.
قال ابن حجر: وكان لما قدم دمشق صلى مع النائب، وهو يلبغا، فرأى إمامه رفع يديه عند الركوع والرفع منه، فاعلم الإتقاني يلبغا، أن صلاته باطلة على مذهب أبي حنيفة، فبلغ ذلك القاضي تقي الدين السبكي، فصنف " رسالة في الرد عليه "، فوقف عليها، فجمع " جُزءاً "، في إثبات ما قاله، وأسند ذلك عن مكحول النسفي أنه حكاه عن أبي حنيفة، وبالغ في ذلك، إلى أن أصغى إليه النائب، وعمل بقوله.
قال: واختص بصرغتمش، وأشار عليه بأن فصر مدرسته على الحنفية دون غيرهم، وكان شديد التعاظم، متعصباً لنفسه جداً، حتى قال في " شرحه " للأخسيكثي: لو كان الأسلاف في الحياة، لقال أبو حنيفة: اجتهدت. ولقال أبو يوسف: نار البيان أوقدت. ولقال محمد: أحسنت. ولقال زُفر: أتقنت. ولقال [الحسن] : أمعنت. واستمر هكذا، حتى ذكر أعيان الحنفية.
وقال الصفدي، في ترجمته: كان متعصباً على الشافعية، متظاهراً بالغض منهم، يتمنى تلافهم، واجتهد في ذلك بالشام، فما أفاد، ودخل مصر، وهو مُصر على العناد، وكان شديد الإعجاب.
وشرح " الهداية " شرحاً حافلاً، وحدث ب " الموطأ " رواية محمد بن الحسن، بإسناد نازل.
وقال ابن حبيب: كان رأساً في مذهب أبي حنيفة، بارعاً في اللغة والعربية، كثير الإعجاب بنفسه، شديد التعصب على من خالفه.
قلت: لا يخفى على من عنده أدنى تأمل، ووقف على مؤلفات الإتقاني، أن ما ذكره ابن حجر، ونقله عن الصفدي وغيره، في حق الشيخ، أنه كان من المجمع على علمه، وفضله، وتحقيقه، وبراعته، ومن كان هذا الوصف وصفه، فبعيد أن يصدر منه ما لا يليق بمثله، ولا يحسن بعمله وفضله، مما أضربنا عن ذكره، من التعصبات التي تؤدي إلى وصف الإنسان بما لا ليس فيه، والجواب في الجميع سهل، والأقران قلما تخلو من مثل ذلك.
قال ابن حجر: وقرأت بخط القطب: فقيه، فاضل، صاحب فنون من العلم، وله معرفة بالأدب، والمعقول، درس بمشهد أبي حنيفة ببغداد، وقدم دمشق في رمضان، سنة إحدى وعشرين، ثم دخل العراق، سنة اثنتين.
وكانت وفاته بمصر، سنة ثمان وخمسين وسبعمائة.
قال ابن الشحنة، في أوائل " شرح الهداية " في ترجمة الإتقاني: وقد أخبرنا شيخنا الحافظ أبو الوفاء أن الأمير صرغتمش الناصري، كان قصد أن يبني مدرسة، ويقرر في تدريسها الشيخ علاء الدين الأقرب الحنفي، فقدرت وفاته، [فكانت] ولاية الشيخ قوام الدين بها على أكمل وجوه التعظيم، حتى إنه يوم ألقى الدرس، حضر الأمير صرغتمش إلى منزل الشيخ بقناطر السباع، واستدعاه للحضور، فلما ركب الشيخ أخذ الأمير صرغتمش بركابه، واستمر ماشياً في ركابه إلى المدرسة، ومعه جماعة من الأمراء مشاة، فقال له: يا أمير صرغتمش، لا تأخذ في نفسك من مشيك آخذاً بركابي، فقد أخذ بركابي سلطان من بني سلجوق. وكان يوماً مشهوداً.
وذكره الصفدي في " أعيان العصر، وأعوان النصر "، قال: ونقلت من خطه - يعني صاحب الترجمة - ما صورته: تاريخ قدومنا دمشق في الكرة الثانية، في العاشر من شهر رجب، سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ثم لبثنا ثمة إلى أن خرجنا منها، في ثامن صفر، يوم السبت، من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.
قال العبد الفقير إلى الله تعالى أمير كاتب ابن أمير عمر، المدعو بقوام الفارابي الإتقاني: كان تاريخ ولادتي بإتقان، ليلة السبت، التاسع عشر من شوال، سنة خمس وثمانين وستمائة، وفاراب: مدينة عظيمة من مدائن الترك تسمى بلسان العوام أوترار، وإتقان: اسمٌ لقصبة من قصباتها.
ثم قال: هذا ما أنشأ في دولة السلطان مالك رقاب الأمم، مولى ملوك العرب والعجم، قاهر الكفرة والمشركين، ناصر الإسلام والمسلمين، الملك الناصر فلان، في مدح المقر العالي، سيف الدين صرغتمش، رحمه الله تعالى: