ويقيم دليلًا آخر على مذهبه أكثر إيضاحًا، فيرى أنه قد يكون هناك لفظتان مختلفتان في المادة، متحدتان في المعنى، والوزن، وحسن الاستعمال، ومع ذلك لا تصلح هذه مكان تلك، بل لكل منهما موضع متميز في النظم والتصوير. يقول: "إنك قد ترى -لفظتين يدلان على معنى واحد، وكلاهما حسن الاستعمال وهما على وزن واحد، وعدة واحدة إلا أنه لا يحسن استعماله هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما في مواضع السبك"1.
ويرى ابن الأثير أن الكلمة في الصورة الأدبية، توحي بمعان جديدة في النظم لم تكن لها وهي مفردة عنه، وتشف عن أضواء لم تكن فيها قبل، كاللآلئ الغالية، فكل حبة من اللؤلؤ في العقد، اكتسبت من جاراتها إيحاءات جديدة إذا وقعت في مكانها المناسب، وتفيض عليها أخواتها ظلالًا وأضواء، تعكس ألوانًا وأطيافًا خلابة، وتؤدي هي الأخرى دورها كذلك، فتتجاوب بشعاعها مع الأصداء، ثم ذلك النمو التدريجي بين الحبات، ليتم لها الانتقام والالتئام مع غيرها ويضفي على العقد الصورة الرائقة الفريدة.
وكذلك الأمر في الألفاظ الغالية وغيرها، لو أخذ كل لفظ مكانه من النظم لأضفى على الصورة الأدبية، ما يشبه هذه الإيحاءات في العقد من اللؤلؤ، فإن ضلت الكلمة مكانها من النظم فقدت الصورة وحيها، وتلاشت الظلال والأضواء فيها. وكذلك الأمر حين يقع اللفظ الغالي في نظم فاسد، وصورة مضطربة فستفقد قيمتها من الصورة، مع أنها في غاية الجودة وهي مفردة، وفي ذلك يوفق ابن الأثير غاية التوفيق، ويسبق نقادنا المعاصرين إلى وحي الصورة، في دقة تناول وبراعة