فالشاعر في نشوة العمل الفني، وغمرة التكوين الداخلي للصورة في نفسه، يحسن بتجرد تام من أثقال المادة، ويصير هو في ذاته خيالا وفكرًا وشعورًا وعاطفة، مجردًا من الماديات، وهو ما أقصده من الوجود المطلق للشاعر من عالم الماديات والشاعر في هذه الحالة يشعر بوجوده، ومن خلاله يرى وجود الغير، ويعرف حقائق المعاني والمحسات معرفة حقيقية، فالوجود يرى ذاته في الآخرين، ولذلك قيل: إن الشعر الصادق هو الذي يتم فيه التعاطف مع مصادر الوجود الأخرى في الواقع والحياة والطبيعة؛ لأنها جميعًا مع نفس الشاعر قد تجاوبت معه، وأصبحت كلها كالأعضاء في جسد الإنسان، إذا ما تألم عضو أو تعاطف تجاوبت معه بقية الأعضاء، وعملية الكشف هذه عن حقيقة المعنى أو الشيء من خلال وجود الشاعر بالتنسيق السابق بين وسائل الإفصاح المختلفة هي الصورة الأدبية أو الشعرية.
والشاعر حينما يخلق بوجوده الفكري والشعوري معًا، مجردًا من عالم المحسات ليلتقي مع عالم الأرواح، ويتعرف على أسراره، ويتمكن من حقيقة ما في الواقع والحياة ويشكف عن العلاقات بين أجزاء المحس، أو المعنى المجرد أو الصراع النفسي، أو الحالة الإنسانية أو العاطفة.
وبذلك الكشف يموج الجماد بالحيوية والحركة، وينمو المعنى، وتحيا الحالة النفسية والإنسانية، وتزداد الحرارة في العاطفة وتقوى.
وعندئذ ستتحول كل جزئية مما سبق إلى خلية تحمل في ذاتها وجودها الحقيقي، ولا يتم لها ذلك إلا بعد امتزاجها بالأجزاء الأخرى، ويتخذ كل جزء مكانه ليبث الحياة في المجردات والمحسات والحالات النفسية والإنسانية والعواطف والنماذج البشرية وغيرها، وتكون الجزئيات في كل ما سبق كالخلايا في الإنسان الحي تمامًا، والتي هي مصدر وجوده الحقيقي؛ لأن كل خلية فيه تتفاعل مع بقية