وكل منهما له قيمته التي لا تقل عن الآخر، وعلى سبيل المثال نجد أن الصورة تمثل الآلة "الميكانيكية" فالحركة فيها مرهونة بوضع الأجزاء وكل في مكانه، في رباط قوي وإحكام ودقة، وإلا توقفت عن العمل لاختلال أجزائها واضطرابها في مواقعها.
وابن الرومي كان في معظم شعره يسير على النمط الثالث، حتى كاد أن يجمع النقاد، أنه من أصحاب المعاني الذين يعنون بالفكرة، ويعمقونها، ويهتمون بمضمونها، ويكاد أيضًا أن يجمع النقاد قديمًا وحديثًا على أنه الشاعر المصور والرسام البارع، والعبقري في تصويره.
وعندي أن العناية بالصورة والنبوغ فيها يستلزم العناية بمضمونها الخلقي فيها؛ لأن مراعاة التمام في أجزاء الصورة، وارتباطها، واستيفاء عناصرها، يؤدي في النهاية إلى كمال المعنى، وتمام الغرض، وحيوية المضمون، فالنبوغ في التصوير لا يفصل الشكل عن المضمون بحال.
والعمل الفني أشبه بالدائرة الكهربائية التامة المغلقة التي تبدد الظلمات بأضوائها، فإن اختل جزء منها، وانفتحت الدائرة من أي مكان توقف التيار وانقطع النور، فلا قيمة ولا حياة، بل توقف وظلام.
والأمثلة كثيرة في شعر ابن الرومي مثل صورته الرائعة في رثاء البصرة، فإنه يثور فيها على الظلم وأهله من الزنج، الذين انتهكوا الحرمات، وقضوا على المقدسات، في أبشع صورة يعرفها البشر، كلها غدر وخيانة، وظلم وقسوة، لا هوادة فيها ولا رحمة، ولا مراعاة للمبادئ الإنسانية والخلقية والحضارية، ثم يستغيث الشاعر بالعالم بالإنسانية كلها لإنقاذ الحضارة والمقدسات، وردع الطغاة والظالمين في البصرة وغيرها من الأمم، وذلك كله في صورة أدبية يقول في مطلعها: