استقر الصحابة في حوارهم كما ذكرنا على أن الخلافة ستكون في قريش، وهذه خطوة عظيمة وهامة جداً للوصول إلى الخليفة، لكن ما زال هناك خطوات وخطوات، فقريش قبيلة عريقة ملأى بالبطون الشريفة، ففي أي بطن ستكون الخلافة؟ ثم إن المهاجرين كثيرون، والرجال الذين يستطيعون إدارة الأمة أكثر مما يتخيل الإنسان، وكل رجل من المهاجرين أمة، فمن من هؤلاء سيتولى هذه الخلافة؟ ممكن نتخيل أن الأمر سيكون صعباً جداً، يعني: أن المهاجرين كثر، وكلهم على درجة عظيمة جداً من الفضل، لكن تعالوا ننظر ما الذي حصل في السقيفة؟ قام الصديق رضي الله عنه وأرضاه وقال لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ببساطة شديدة: ابسط يدك نبايع لك، الصديق يريد أن يبايع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على الخلافة، فقال عمر: أنت أفضل مني، قال أبو بكر: أنت أقوى مني، قال عمر: فإن قوتي لك مع فضلك.
سبحان الله! أي مجتمع هذا الذي ينفر فيه كل رجل من الإمارة؟ نحن نرى والله! إخوة ملتزمين متمسكين بالدين وهم المفروض أن يكونوا فاهمين الدين لكن نراهم يتقاتلون على إمامة مسجد، وعلى إمامة صلاة، فماذا سيعملون لو كانت إمامة أمة؟! فتقدم أبو عبيدة بن الجراح الأمين رضي الله عنه وأرضاه وقال: لا ينبغي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر! أنت صاحب الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين، وأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتكى، وصليت بالناس، فأنت أحق الناس بهذا الأمر، وسبحان الله! أبو عبيدة بن الجراح كلامه قليل لكنه رجل موفق إذا تحدث أصاب الهدف بكلمات معدودات.
وهنا عمر أخذ زمام الكلام من أبي عبيدة ورآها فرصة يبعد عن نفسه الخلافة فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة؟ قالوا: بلى.
قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا جميعاً: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر! هذا كما رواه النسائي والحاكم.
وهنا وثب عمر بن الخطاب لما سمع هذه الكلمات من أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، والفاروق واضح جداً أنه فاروق بين أمور كثيرة وأمور أخرى، فأخذ بيد أبي بكر الصديق في حسم واضح للمشكلة وبايع الصديق على الخلافة، وطلب البيعة له من الحضور، فماذا حدث؟ قام أسيد بن حصير -أنصاري- وبشير بن سعد رضي الله عنه -أنصاري- قاما يستبقان للبيعة، ووثب - كما يقول الرواة - أهل السقيفة يبتدرون البيعة، فبايع الحباب بن المنذر رضي الله عنه، وبايع ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه، وبايع زيد بن ثابت، وبايع كل الأنصار في السقيفة ما عدا رجل واحد فقط معذور وهو سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه؛ وحتى لا يذهب الذهن بعيداً ليعلم أن سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه بايع بعد أيام قلائل من يوم السقيفة، وما منعه من البيعة في اليوم الأول إلا حراجة الموقف، فقد كان في بادئ هذا اليوم مبايعاً للخلافة قبل مبايعة أبي بكر بوقت قصير، كما أنه كان لا يستطيع حراكاً لمرضه، ويحسب له أنه أخذ الموضوع في هدوء يحسد عليه، ولم يتكلم بكلمة واحدة، ولم يظهر منه في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه أي اعتراض على إمارته، بل أنه خرج بإذنه إلى الشام مجاهداً حيث استشهد هناك.
وهكذا في يوم السقيفة تمت البيعة لـ أبي بكر الصديق بإجماع قلما يتكرر في التاريخ، وبآداب من المستحيل أن توجد في أمة غير أمة الإسلام، هذا هو تاريخ المسلمين، هذا هو تاريخنا، انظروا الناس الذين حولكم، وانظروا كل بلاد العالم كيف يكون الصراع فيها على السلطة، وآخر ما سمعت أنه سقط نصف مليون قتيل في صراعات السلطة في أنغولا، ونحن نرى الذي يحصل في فنزويلا مثلاً، والذي يحصل في الصومال، والذي يحصل في راوندا، والذي يحصل في معظم بلاد العالم، وانظروا الذي يحصل حتى في البلاد التي يطلقون عليها بلاداً حضارية متقدمة، أليست البرامج الانتخابية تشمل في الأساس محورين رئيسين: المحور الأول: شكر في الذات، واستعراض للقدرات، وهكذا المحور الثاني: محاولة التعريض والسب والفضيحة بالنسبة للطرف الآخر، حيث يبحث كل مرشح عن عيوب غيره ليبرزها للناس، ويسجل بها نقاطاً لصالحه.
ثم ألا تسمعون يا إخوة! عن تزييف وتزوير ودس ومكيدة؟ ألا تسمعون عن قهر وتعذيب وظلم وبهتان؟! فقارن بين ما رأيت في سقيفة بني ساعدة وبين ما ترى في أي سقيفة في العالم اليوم، وستدرك لا محالة عظمة هذا الدين، ورقي هذا ال